أم سعود تروي استضافة اسرة الراشد لها في مسكان
الحلقة 2/2
تراثنا – د . محمد بن إبراهيم الشيباني * : تستكمل تراثنا الإلكترونية في الحلقة الثانية والأخيرة نشر تقريرها عن أسرة آل بوراشد ( الراشد ) العثامنة الكريمة ، ودورها الطيب في المجتمع الكويتي منذ القدم ، وكانت قد تناولت في الحلقة السابقة أبرز رجالاتها ، وما اسند إليهم من مهام في مواقع متعددة في الجزر الكويتية والديرة وغيرها ، و ما كان لهم من ايادي بيضاء وآثار طيبة .
وفي هذه الحلقة تفرد تراثنا جانباً واسعاً لما دونته فيوليت ديكسون الملقبة بأم سعود زوجة المعتمد البريطاني في الكويت هارولد ديكسون ، عن انطباعاتها عما شاهدته في جزيرة مسكان من كائنات وطيور ، حين استضافتها أسرة أبراهيم الراشد الموكل إليه أمر رعاية الجزيرة .
تجدر الاشارة ان التقرير سبق نشره في صفحات مجلة تراثنا الورقية ( العدد 45) الصادر في يناير/ فبراير 2012م .
جزر الطيور
في عام 1942م قامت أم سعود فيوليت ديكسون بزيارة جزيرة مسكان ، حيث التقاها إبراهيم الراشد ، وطاف بها في الجزيرة وعرفها على زوجته وأبنائه ، الذين يعيشون معه في الجزيرة ، وهذا وصف أم سعود للجزيرة أيام والد حمد .
زيارة الجزيرة
تقول أم سعود ( ص 592) :استشرف المدعو إبراهيم الفودري ( أبو راشد ) الذي يتولى صيانة المغارة في جزيرة مسكان ويمارس صيد الأسماك ، حول أنسب وقت لزيارة جزيرة عوهة ، نظراً لرغبتي مشاهدة الطيور التي تبني أوكارها هناك ، فقال لي إن أبناءه قاموا في العام 1941م بزيارة هذه الجزيرة في 23 ربيع الثاني وهو الشهر الرابع من السنة الهجرية ، وأنهم جمعوا حوالي مئة وخمسين بيضة باعوها في سوق الكويت ، وقال : سوف تظهر ثرياً في الخامس والعشرين من الشهر وإذا أمكنك الحضور حوالي يوم 26 فسوف يكون الطقس مناسباً .
وطلبت منه أن يحضر للقائي مرة أخرى قبل بضعة أيام من التوجه إلى هناك حتى أتمكن من إجراء الترتيبات النهائية ، وجاء إليّ بالفعل صباح 5 من مايو ، وقال إنه سمع أبناءه يتفقون على الذهاب إلى عوهة لجمع البيض ، فطلب منهم إرجاء موعد خروجهم حتى تتمكن الخاتون ( السيدة ) من مرافقتهم ، ولذلك نصحني بالتبكير بالرحلة .
الاستعداد للسفر
تستطرد فيوليت ديكسون حديثها : واتخذت التدابير المناسبة لمغادرة الكويت في الصباح الباكر يوم الخميس 7 من مايو وحرصت على أن أصطحب خادمنا سالم المزين ، وكان ممن مارسوا مهنة الغوص على اللؤلؤ
في وقت من الأوقات وابنة أخيه عمشة بنت إبراهيم المزين ، وكان كل ما حملته معي لا يتجاوز خيمة تزن 30 رطلاً وسريراً صغيراً ( يطوى) بطانية وسجادتين من الصناعة المحلية ، ووسادتين كما أخذت معي نصف غرارة من أرز كراتشي ، ونصف غرارة من الدقيق وأوقية من الدهن ، وأوقية من البن ، وحزمة من الحطب لأقدمها هدية لأسرة الفودري التي كنت سأنزل في ضيافتها .
وتقول : في الصباح الباكر ليوم الخميس ، دخلت البلم التي يملكها إبراهيم المرفأ أمام منزلنا في الكويت ، ونظراً لارتفاع المد ، بادرنا بحمل منقولاتنا إليها وانطلقنا ونسيم لطيف يهب من الغرب ولكن الوضع تغير قليلاً بعد ساعتين أو قرابة الساعتين واضطررنا إلى تغيير مسارنا واتجهنا شطر الجانب الشمالي الغربي من مسكان ، ووصلنا في الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً ، في جو شديد الحرارة مشبع بالرطوبة ، وكان منزل إبراهيم المكون من مجموعة من الأكواخ الصغيرة المنخفضة المشيدة من الحجارة على الساحل الغربي ، وبجواره مباشرة المنارة التي تضاء كل مساء عند غروب الشمس ، وكانت هناك شجرة نحيلة الأغصان على بعد حوالي مئتي ياردة ، توفر الظل لأبقاره وأغنامه وقت الظهيرة.
أشجار الجزيرة وأعشابها
وتمضي أم سعود ديكسون في وصف الجزيرة : وتغطي الجزيرة حوالي ثلاثين فداناً ، وبها خزانان جيدان للماء مشيدان من الإسمنت يمتلئان بمياه الأمطار كل عام ، وهناك كلأ جيد وأحراش تتخذ شكل الثندات تغطي الجزيرة وهذه الأشجار تقطع كل خريف ولا تقتلع من جذورها ، عندما تجف لتستخدم كوقود ، ثم تنمو الفروع من جديد في الربيع والصيف لتضفي على الجزيرة مظهراً أخضراً خلاباً .
وسيلة عيش أسرة إبراهيم
ووسيلة العيش الرئيسة لإبراهيم – الكلام لأم سعود – هي الأسماك التي يقوم بصيدها هو وأبناؤه بوساطة الشباك ويأتون بها إلى أسواق الكويت . وكانت أسرته تتكون من زوجته وثلاثة أبناء كبار مع زوجاتهم وعدد من الأطفال الصغار وابنته المتزوجة وثلاث بنات أخريات في سن العاشرة والخامسة ، وكان للسيدات مكان خاص يجلسن فيه يُعرف بالعريش على حافة الساحل بالقرب من منزلهن ، تتكون جدرانه من بقايا صواري السفينة وأعمدتها وقطع من الشباك البالية ، مع سقيفة من الحصر الوارد من أحواز العراق ونصبت خيمتي خلف هذا العريش مباشرة ، وكنت أجلس في ظله بالنهار على حشية ووسادتين .
الطقس في الجزيرة
وتستطرد في رصد ملامح الحياة في الجزيرة : كانت الرياح تهب طوال اليوم ، باستثناء ساعة واحدة قبل وقت الظهيرة ، إما من الجنوب وإما من الغرب . وكانت باردة ومنعشة لهذا الوقت من السنة ، وأقبلت بقرتان لحلبهما في الساعات الأولى من وقت الظهيرة ، ثم خلدتا إلى الراحة تحت الشجرة حتى حوالي الساعة الثالثة ، فتم حلبهما مرة أخرى قبل أن تخرجا إلى المرعى ، أو لتلتهما أي أسماك مجففة تعثران عليها . وعند مغيب الشمس تربط كل بقرة على حدة ، وتقدم لها وجبة من نوء التمر ( طعام ) أو قليل من التمر نفسه تتناولها من إناء يتكون من صدفة كبيرة لسلحفاة ضخمة ، وعند حلول الظلام أقبلت أيضاً إحدى عشرة عنزة وشاة لقضاء الليل تحت الشجرة .
كرم أسرة إبراهيم
وعن الطعام تقول : أعدت نساء الأسرة لي في وجبة الغداء أشهى أصناف من الأرز، بعضه محلى بالسكر ( محمر ) والبعض الآخر غير محلى ، وتشكيلة من الأسماك طهيت بطرق مختلفة ، وتمر مطبوخ بالعسل ، إلى جانب اللبن وأما بالنسبة لوجبة العشاء فكان هناك المزيد من الأرز والأسماك وصنف من بيض الحمام بالزبد ، بالإضافة إلى زجاجة من الماء أضيفت إليها حبوب اللقاح من نخلة ( ذكر ) للمساعدة على الهضم .
نشاطات متنوعة
ومنذ منتصف الليل فصاعداً هبت رياح جنوبية وكان الندى كثيفاً جداً حتى بات من المتعذر التوجه إلى عوهة في الصباح التالي كما كنت أتمنى ولذلك أمضيت يوماً آخر في استرخاء ونحن نذرع أرجاء الجزيرة ، وخرجت لصيد الطيور مع الأولاد وأخذت أرقب الرجال وهم يصنعون شباك صيد الأسماك ( الحظور ) باستخدام القصب الوارد من العراق بينما يقوم بعضهم بطرق السويقات التي تحمل ليصنعوا منها حبلاً يربطونها به ، ويسمى هذا الحبل بالعسو ، وتحتاج الشباك إلى تجديد مستمر نظراً لسهولة تمزقها بفعل العواصف .
وكانت أنواع الأسماك التي تم صيدها أثناء زيارتي هي الزبيدي والسبيطي والشعم إلى جانب ما تضمه الشباك عادة من زهاء عشرة من اللخمة ( الشفيتين البحري ) اللداغ كبير الحجم ، وصغارها .
أنواع السمك
وعن أنواع السمك تتحدث فيوليت قائلة : هناك نوعان من اللخمة البحري اللداغ ( اللخمة ) في هذه المياه أحدهما مكور الجانبين يُعرف في الكويت باسم السيني ، والآخر مدبب الجانبين مثل الجناحين وذيله أطول وأرفع ويشبه السوط ، ويعرف هذا النوع بالأنسيقي . وقد تعرض إبراهيم وأبناؤه جميعاً للدغات هذه الحيوانات الشرسة ، أصابتهم في أجزاء من الساق والفخذ ، واضطروا معها أحياناً إلى ملازمة الفراش لعدة أشهر .
ومن الواضح أن لدغة اللخمة الصغيرة تُحدث تسمماً أقل مما تحدثه اللخمة الكبيرة ، ويتخذ الزبانى ( أداة اللدغ ) شكل زائدة رفيعة صلبة كالعظام يبلغ طولها بوصتين ونصف البوصة ، تتوقف فجأة داخل الجرح ، ولايمكن إزالته إلا بعمل فتحة في العضل في مواجهة نقطة الدخول وجذبه إلى الخارج .
طيور الجزيرة
وتنتقل إلى الحديث عن الطيور في الجزيرة : كانت الجوباء ، وهي القبرة ذات العرف ، آوية في أوكارها وعثرت أنا والأطفال على عش صغير لها تحت فرع شجيرة حمض وكان مشيداً كله ، وبكل دقة وأناقة ـ من حشائش السمعة الجافة ، وكانت به ثلاث بيضات . كما عثرنا على عش مشابه ، وإن كان صغيراً جداً لايزيد اتساعه على البوص وتضعه البومة أسفل أحد الأفرع ، ولم يكن به أي بيضة .
وكان هناك ما يتراوح بين خمسة عشر وعشرين وكراً من أوكار الخضاري ، وهو طائر أخضر اللون يأكل النمل ، تتوارى جميعها في حجور شقت في الأرض ، بزاوية مائلة وإلى عمق لا يقل عن عشرة أقدام ولمحت بيضة عند مدخل أحد هذه الجحور وكانت بيضاء اللون بيضاوية الشكل تقريباً .
ويبني القراوي وهو طائر الزقزاق وكره عادة فوق رقعة جافة من التربة بعيداً عن الشاطئ ، وكانت الأوكار مجرد منخفضات دائرية تحدها رقائق من الطمي الجاف وقطع من أصداف البحر المهشمة ، وعثرت على وكرين بكل منهما ثلاث بيضات ، ووكر به بيضة واحدة ، ورأينا أحد هذه الطيور يحوم من فوقنا ناشراً جناحيه ويتحرك في خط متعرج صوب الشاطئ والأرجح انه كانت له صغار ولكننا لم نعثر عليها .
وكانت الجويدة وهي طائر صغير يشبه النورس تأوي إلى أوكارها وتطير من فوقنا وهي تطلق صرخاتها . وكان أحد الأوكار أسفل فرع لشجيرة حمض وبه بيضة مدببة لدرجة أكبر قليلاً مما رأيناه في البيض الذي تضمه أوكار القروي ، ربما كانت بيضة جويدة ، رغم مشابهة الوكر لوكر القروي .
أنواع أخرى من الكائنات
وتواصل ام سعود الحديث بتفاصيل عن طيور الجزيرة : كانت فضلات الحباري والعديد من طيور السنونو والخطاف الميتة تتناثر على الأرض وكان من الواضح أنها هلكت نتيجة للعطش والإرهاق أثناء هجرتها ، وعثر الأطفال على أنواع أكبر حجماً من آكل النمل برتقالية وبنية اللون ، وهي في حالة إعياء شديد ولم تكن هذه الطيور تبني أوكارها في الجزيرة ، كما لاحظت أن بعض الأنواع الأخرى من الطيور المهاجرة تمر من فوق الجزيرة لمواصلة رحلتها ولكن لم أتمكن من التعرف على أنواعها كما رأينا ستة من طائر الكروان المائي على الشاطئ ، وفي الصباح الباكر كانت الطيور المغردة الصغيرة تمتص الرحيق الندي المتراكم على أغصان السيقان .
حديث أم حمد لأم سعود
وبعد تناول طعام العشاء في الليلتين الأولى والثانية من زيارتي جلست ربة البيت مع عمشة ( خادمة أم سعود ) ومعي تحكي لنا القصص عن البادية وهي أصلاً فتاة بدوية أبوها ، وقد جاء بها إلى قرية العيون بالقرب من حائل .
قالت لي : في تلك الأيام التي لم تنقطع فيها القلاقل والاضطرابات كان الجميع يحملون أسلحتهم النارية ، وكان الرجال لا يفكرون في الذهاب إلى المسجد لأداء الصلاة إلا وهم مسلحون ، وحتى الفتيات تعلمن ضرب النار ، وركوب المهر ، وكانت المنطقة المتاخمة لحائل تتميز بتعدد التلال التي تكثر بها الكهوف ، وكانت الأخطار تحدق بنا ونحن وماشيتنا لأن الضباع والنمور كانت تأتي بالليل لاختطاف أغنامنا وعنزاتنا .
وتواصل ام سعود في سرد حديث عمشة لها : وقد روت لي أمي قصة جرت وقائعها وأنا لا أزال رضيعة غضة في الشهر الثاني من عمري ، عندما كاد أحد الذئاب أن يخطفني ويفر هارباً ، كان أبي في المسجد يؤدي
الصلاة بينما عادت أمي وهي تحملني إلى المنزل ، وعندما توجه أبي إلى المسجد نسي أن يغلق الباب ، ولذلك فما إن دخلت أمي إلى الساحة حتى قفز ذئب كان يربض في الداخل قفزة واحدة وحاول أن يمسك بي من ذراعي، وأصابت أنيابه رسغي وأصابعي بجراح شديدة غائرة ، ولكن أمي أطلقت صرخة حادة مدوية جعلت الرجال يهرعون من المسجد ، وأسلحتهم في أيديهم ، وهم على أهبة الاستعداد لملاقاة عدو أو التصدي لمجموعة من المغيرين ، وعندما قالت لهم أمي أن المهاجم ذئب ، بدأوا بمطاردته على الفور ، ولكن بعد فوات الأوان ، أن الوحش تمكن من الهرب إلى التلال ولازالت آثار الجروح على يدي ، وسوف ترينها في الصباح على ضوء الشمس .
في الختام
هذه هي أسرة الراشد ( بو راشد ) ودورها في تاريخ الكويت وقد اختصرنا بحث أم سعود عن جزيرتي الطيور مسكان وعوهة التي كان لإبراهيم والد حمد دور كبير في مساعدتها في معرفة الطيور وأنواعها وكيفية عيشها وتكاثرها ،وحمد هذا آخر رجال هذه الأسرة الذين مازالوا في جزيرة مسكان ، حيث مازالت هناك ذكرى والده وإخوانه وزوجاتهم وأولادهم وأغنامهم وحظورهم وبيوتهم ، ففي كل موضع في الجزيرة لهم قصة تذكرهم بتلك الأيام وحوادثها، لم يبق لهم منها إلا الذكرى التي تلتهب في القلب حيث تذكر أيام الطفولة وبراءتها أو قسوة المكان حيث لا أطفال آخرين غير القرابة لقد علمتهم الحياة في الجزيرة النشاط والعمل الدؤوب المستمر ونبتت أجسادهم على الطبيعة والأكل الطبيعي الخالي من الملوثات تلك هي الحياة التي كتبها رب العباد على عباده فمنهم من يعيش في البحر وآخر في اليابسة وثالث في سفح جبل وآخر تحته وهذا بادي وذاك حاضر وناس في نعومة عيش وآخرون في خشونته وفي نهاية الأمر كلهم سواء .
*رئيس التحرير
طالع : الحلقة السابقة (الأولى ) : عائلة بوراشد في فريج العثمان
تواصل معنا
زيارة الصفحة الرئيسة ( تراثنا ) – حساب ( تراثنا ) على منصة تويتر – حساب ( المخطوطات ) انستغرام – مجلة ( تراثنا ) الورقية – الموقع الالكتروني لمركز المخطوطات والتراث والوثائق .
• لا تتوفر تراثنا حاليا في الاسواق وإنما عن طريق الاشتراك ..
التعقيبات والمساهمات ضمن بريد القراء ادناه
هواتف المركز : 25320902- 25320900/ 965