المستشرقون بين الانصاف والإفتراء
نراثنا – سمير أحمد الشريف * :
كغيره من المستشرقين ، تخلى المستشرق دوزي عن موضوعيته ، ووقف أمام تاريخنا وحضارتنا موقف المفتري ، الذي يبحث عن الشبهات والتشويه .
ولن نتابع مجمل كتابات الرجل الذي حاول البعض من بني جلدتنا أن يلبسها ثوب العلم والحياد ، مكفتين بالوقوف مع منجز واحد له ، لنرى حجم التجني والتعصب والظلم والتشوية والمغالطات التاريخية البعيدة عن العلمية والموضوعية .
كما طرح في كتابه ” تاريخ المسلمين في أسبانيا ” مما يحب أن تنتبه له الأجيال في دراسة هذا التراكم البحثي الذي تركه أهل الاستشراق الذي يخلط السم في ما يبدو لغير المتفحص المدقق دسما ، بخاصة وأن الكتاب يورج كمرجع لا غني للدارسين !
انكار الحقيقة والواقع
هاهي موضوعية رينهارت دوزي تتجلي واضحة حتى في اختيار عنوان كتابه ، عندما يغمط ويصادر فترة تاريخية زاهية من حكم المسلمين هناك ، ما زاد عن 700 عام ، وشهد له البعيد والقريب بالتسامح الديني الذي تجسد واقعا حياً ملموساً ، بين أصحاب الديانات السماوية .
العصر الذهبي للعلم
ما يجتمع حوله الباحثون أن الحكم الإسلامي للأندلس كان فيه كل الخير لتلك البلاد ، وأن قرطبة العاصمة ، معروفة للقاصي والداني بالازدهار والتقدم العلمي والتوسع في التأليف والترجمة ، وبتطورها وغناها ، وبكونها قنطرة بين الفلسفة اليونانية في أوروبا ، وأن الحكم الإسلامي لأسبانيا ، سمي بالعصر الذهبي للعلم ،وانتشار المكتبات والمعاهد العلمية والحمامات العامة ،وازدهر الأدب والشعر والعمارة ،وغيرها من العلامات التي لا ينكرها غير جاحد .
روايات مكذوبة
ويقف دوزي في كتابه على شخصية الخليفة عبدالرحمن الناصر أمام مواقف محاولاً توظيفها لتشويه صورة الخليفة ، ملصقاً به أوصاف الطاغية الظالم ، لأنه حسب دوزي منع إنزال جثة الراهب إيساك ودفنه ، وطلب أن تظل الجثة على الصليب بضعة أيام ، ثم تُحرق ويُدر رمادها في النهر ” دوزي – ص121 ، وهذه الحادثة غريبة شاذة ، لم تذكر في المصادر الإسلامية ذات الاعتبار .
يطعن في عهد الخليفة الناصر
ويستمر المؤلف الموضوعي !! في محاولاته لتشويه شخصية وفترة حكم عبدالرحمن الناصر بقوله ” أن نيران الثورة لدى الأسبان قد خمدت لأن الشيخوخة قد دبت في زعماء هذه الجماعة ،ولم يتحمس لفكرة التمرد والخروج من الدولة الأموية أحد ” ، ويفسر هذا الركون بتذمر الأسبان من الفوضى والحروب ، وأن الأسباني صار يومياً يشاهد الجنود وهم يجتاحون الحقول تدميراً وتخريباً ،و قطع الأشجار المثمرة ، والواقع الملموس أن استباب الأمن ، وطمأنينة السكان على مصالحهم ،وتمتعهم بحريتهم الكاملة ، هو الذي جعلهم يوقفون حركاتهم واعتراضاتهم .
ثم يشيد بعهد الناصر !
وهذا ما يؤكده دوزي نفسه الذي ذكر في نهاية بحثه ما يثبت تخبطه في أحكامه فقد أشاد بعصر عبدالرحمن الناصر ومناقبه بقوله ” اننا نجد إذا ما درسنا ذلك العصر الباهر ، أن الصانع يثير الاعجاب والدهشة ، بأكثر مما يثيرهما المصنوع ، تثيرهما تلك العبقرية الشاملة التي لم يفلت شيء منها ، والتي تدعو إلى الاعجاب في تصرفها نحو الصغائر ، كما تدعو إليه في أسمى الأمور ، إن الرجل الحكيم النابه ، الذي استأثر بمقاليد الحكم ، وأسس وحده الأمة ، ووحدة السلطة معاً ، وشاد بمعاهداته نوعاً من التوازن السياسي ،والذي اتسع تسامحه الفياض لأن يدعو إلى نصحه رجال من غير ملوك العصر الحديث ( 132ص) .
تناقض ومغالطات
كيف يقع دوزي في مغالطاته ويناقض نفسه وهو يشيد ويقر في ص 85-86 بتسامح المسلمين مع نصارى الأندلس ، بتأكيده أن تسامح ومعاملة المسلمين الطيبة لأهل الذمة أدت إلى إقبالهم على الإسلام ، وأنهم رأوا فيه البساطة واليسر ، مما لم يألفوه في دياناتهم السابقة ، لكنه يعاود الغمز والتمحك في البحث عن فرصة للتشويه بقوله : أن تسامح المسلمين في الأندلس عائد لرغبتهم في جمع المال والضرائب والجباية !!
ما وقفنا عليه غيض من فيض ، مما ورد في كتاب دوزي من اغاليط وتشويها ، للتدليل والتنبيه ، فهل يستحق الرجل وجهود ه البحثية ما يوصف به على ألسنة البعض من علمية وموضوعية ،كبعدالرحمن بدوي ، الذي وصفه في موسوعته ، بمستشرق هولندي عظيم ص 259 ،وقوله عن كتاب دوزي ، ص 262 أنه من أكبر الأعمال التاريخية التي كتبها المستشرقون ؟!
نقلا عن تراثنا – العدد 92
تواصل مع تراثنا