سطور من أيام الخوالي
وقفات مع مجلة العربي في عددها السادس مايو 1959
تراثنا – التحرير :
استلت تراثنا من بين رفوف مكتبة مركز المخطوطات والتراث والوثائق ، العدد السادس من مجلة العربي الكويتية ، الصادرة في شوال 1378 هجري – مايو 1959 م .
لا يخفى ان مجلة العربي مثلت في بداية انطلاقتها رسالة الكويت الثقافية ، ولسانها العروبي ، إلى الناطقين باللغة العربية ، في انحاء العالم وارجاءه.
فكانت كما أراد لها مؤسسوها الأولون ، غاية مطلب الجماهير العربية ، من اقصى المشرق إلى اقصى المغرب ، برصانة مادتها ، وثِقل كتابها ،ومكانتهم والأدبية والعلمية، في حقبة كانت القراءة الورقية هي دليل الثقافة ، واللسان ينطق بعلم صاحبه .
في جولة سريعة على محتويات فهرس العدد السادس ، يمكن سبر اهتمامات الكتاب والقراء ، التي سيطرت عليها الأجواء الثورية الحماسية التحررية من نير الاستعمار ، والحرص على ربط المواطن العربي بقضاياه المصيرية المشتركة ، في ظل دعوى القومية العربية ، والالتفاف تحت رايتها حينذاك :
- رئيس التحرير (د . أحمد زكي ) : يتحدث إلى الشباب في الافتتاحية .
- حول القومية العربية : ساطع الحصري .
- هكذا كان الشرق منذ مائة عام ..كتاب من تأليف أليوت دلربرتن .
- سقراط ..كيف مات ؟
- تحرر المرأة زاد نسبة الطلاق ! ( محررة شؤون المرأة ) .
- القدس : المدينة التي يرفرف فوقها ظل الأنبياء ( باب : اعرف وطنك ) .
- الكويت : تسعى لاستعادة مجدها البحري القديم ( تقرير ) .
- قصة الخلق ( د . احمد زكي ) .
- نقد الأثار الأدبية عمل شاق ( د. شوقي ضيف ).
هذا ..إلى جانب استطلاع العدد ومسابقة العربي ، وبريد القراء ،وتبويبات مثل : قصص ، لغات وآداب ، وكتب ، وأسرة ، وعلوم , الطب ..الخ .
انتقاءات من مقالة ساطع الحصري والتعليق عليها
اتحدنا في عصر الجمال والبغال ، فكيف نتفرق في عصر الذرة والصواريخ ؟
وننتقى في هذه العجالة مقتطفات مما كتبه منظر فكر القومية العربية الكبير ساطع الحصري ، في مقالته ( اتحدنا في عصر الجمال والبغال ، فكيف نتفرق في عصر الذرة والصواريخ ؟ ) .
في مدخل مقالته يقول الحصري : ” ان فكرة القومية العربية تعني الايمان بوحدة الأمة العربية ، وتتطلب العمل بنا يستوجبه هذا الايمان ، وذلك بالتفاني في خدمة الأمة للمساهمة في ضمان تقدمها ووصولها إلى اوج الرفعة والقوة والكمال في ميادين العلم والثقافة ..
سدود شيدها المستعمر
وينتقد المفكر الحصري التشرذم بين دول الناطقين باللغة العربية في وضعها الحالي ( حقبة الخمسينيات ) قائلا : ” الحدود التي تفصل هذه الوحدات السياسية بعضها عن بعض – في الحالة الحاضرة – ليست إلا الخطوط التي رسمتها والسدود التي شيدتها الدول المستعمرة ، حيث اتفقت على تحديد مناطق نفوذها أولا ، وحين اقتسمتها اقتسام الغنائم أخيراً ” .
توحيد العرب
وفي مقاله المطول يواصل انتقاد التشرذم بين دول الجوار العربية قائلا ” : فكيف يجوز لاحد ، والحالة هذه ، ان يشك في امكان توحيد البلاد العربية تحت راية واحدة ، مع ان تلك البلاد يتصل بعضها ببعض اتصالا جغرافياً تاماً ، ومع ان سكانها يرتبطون بعضهم ببعص ارتباطاً معنوياً قوياً ، بلغة واحدة ، وبتاريخ مشترك طويل *
ثم يرد على اتهامات تسفه احلام الوحدة العربية بقوله : ” وقج غرفت طائفة من ضعاف الايمان بالقومية العربية ، يقولون على الدوام ان الوحدة العربية وهم وخيال ، فنلكن واقعيين ، فلا نسير وراء الخيال ..واما أنا ، فأقول لهولاء : إن كثيرا من الأمور التي كانت من الخيالات في في الماضي واصبحت من الأمور الواقعية في الحالة الحاضرة ..
تحقق الأمنية
وتحت عنوان ( وحدتنا دخلت في طور التنفيذ ) قال : ومما يجب أن لا يغرب عن بال أحد منا : أن فكرة الوحدة العربية قد اجتازت طور “الخيال الممعن ” و”الأمنية البعيدة المنال ” ، ودخل في طور ” التنفيذ “والتحقيق .
ويمضي د ساطع الحصري موضحاً اسباب تطلعه لقرب الوحدة تحت ظل القومية العربية بالقول : ” لقد تحررت معظم الاقطار العربية من السيطرة الأجنبية ، سوي “الجزائر ” من ناحية ،والمناطق الجنوبية والجنوبية الشرقية من الجزيرة العربية من ناحية أخرى ، وقد جلت الجنود الاجنبية ، من اهم الاقطار العربية ، جلاء تاماً ،وانحصرت في بعضها ألآخر ، في عدد محدود من المطارات والقواعد العسكرية ” .
طالع : عودة العرب إلى مسائل الجاهلية ( حلقات ) .
كما اشار إلى توحد بعض الدويلات العربية ، مثل حلب ودمشق وجبل الدروز وجبل العلويين ، التي كان انشأها الفرنسيون ، وتكونت الجمهورية السورية ، وتوحدت نجد والحجاز والعسير وكونت المملكة العربية السعودية ..الخ .
الأمل قريب
ويختتم ابو خلدون – كما يُكنى الحصري – وهو يحدوه الأمل بالوحدة التي تلوح في الافق : .. غير اني عندما أعدت قراءة هذه الاسطر ، شعرب بسرور حاد يغمر جوانحي ، ، لأني قد لاحظت بأنه لم يعد يحق لي أن أقول : ” لم يبق شيء غير الأمل ” لأنه خلال تلك السنوات ، لم ينقطع الأمل ، من التأثير في نفوس العاملين المخلصين تأثير السحري الباهر ..
و استطرد : ” .. لذلك اصبح الأمل الأنف الذكر ، جديراً – اليوم – بالتحول إلى ” الايمان ” ..الايمان بوحدة الأمة العربية ، وبمستقبلها الباهر أيمانا لا يتزعزع ، يجب أن يكون رائداً كل منا بعد الآن ** .
( تعليق التحرير ) :
* تغاضى المفكر الحصري عن العامل الأهم في تحقيق الوحدة ، حيث اهمل وحدة الديانة ( الإسلام ) التي تمثل معتقد الأغلبية المطلقة ، أهملها ( لصالح الأقليات ) ، وهي أهم العوامل المشتركة المحفزة للوحدة في تاريخنا العربي والإسلامي ، واقعاً وليس تنظيراً ، حيث اجتمعت حوله ( عقائده وشرائعه ) القبائل العربية المتنازعة ، وكونت لأول مرة حضارة انصفت اليهود والنصارى وغيرهم على حد سواء ، مع ملاحظة ان العرب في جاهليتهم عجزوا عن تحقيق الوحدة ، رغم توفر عناصر وحدة اللغة والقومية والمصالح والتقارب .. والخ ،فكل ما فعله منظرو القومية ، هو إعادة إلباس العرب الثوب الجاهلي القديم قبل الإسلام ، بعد تفريغه من مادته العقدية الإسلامية ، لتكون العروبة وحدها عاملاً لوحدتهم !! في الوقت الذي كانت هذه العصبية عامل الفرقة التي حاربها الإسلام !! .. فتأمل قوله تعالى ( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) سورة الأنفال !! .
** بعد مضى اكثر من 60 عاماً على كتابة هذا المقال للمفكر الحصري ،ووضعت الحرب أوزارها ، وانقشع الغبار ، يمكننا الحكم بأن تفاؤله بحتمية انتصار القومية كان سراباً يحسبه الظمآن ماء ، فما ازدادت الأمة إلا تشرذماً وتفرقا بهذا الفكر وتفرعاته ، بل عادت قوى الأستعمار أشد مما كانت ، وعادت معها القواعد العسكرية برا وبحرا وفضاء ، لكن هذه المرة برضى الانظمة العربية ، نتيجة اهمال الإسلام وعوامل الوحدة والقوة والنصرة فيه ، لقد فتح دعاة القومية بدعوتهم الباب على مشراعيه لدخول رياح تحمل في طياتها المزيد من الشرذمة والتشظي ، فتعلق العرب بكل ناعق يأتي من شرق وغرب ، وقبلوا برحابة صدر كل دعوة اياً كانت دعوته ، واصطفوا معه في محاربة دينهم والمخلصين له .. لقد هانوا في أعين انفسهم فهانوا في أعين الأخرين ( وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ۚ ) !!