د. محمد بن إبراهيم الشيباني
في مقدمة تاريخ ابن خلدون ما نصه : وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول فن الأدب وأركانه أربعة دواوين هي: كتاب الكامل للمبرد ، وأدب الكاتب لابن قتيبة ، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي ، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروعها .
هؤلاء لم يبلع شأوهم من بعدهم في تثبيت أصول الأدب فجاؤوا في الصف الثاني بعدهم إلا أنهم لا يقلون في الشهرة مثلهم فالأول كما قيل يستلين الصخور ويستنطق الأحجار والتالي يتفنن ويبدع في تحويل الصخور إلى شيء يذكر ويحمد:
فالبحر يمطره السحاب وماله مـنٌّ عليه لأنه مـن مــائه
فهؤلاء وهؤلاء لم يثن عزمهم ما يطرأ عليهم أحياناً من انحراف في الصحة ولم تلههم أعمالهم الرسمية أو اليومية عن متابعة التأليف والتصنيف حتى صاروا قمماً يرجع إليهم من بعدهم كما قيل :
لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
لا يبلغ الظالع شاؤ الضليع مسألة صحيحة ولكن الظالع قد سوق للضليع حين تدارس وحافظ على ما رقموه حباً لإفادة أنفسهم والناس من بعدهم فكان ما كان من تواتر العلوم والآداب وأمانة نقلها حتى وصلت إلينا وما كنا لنعلم أن أصول الأدب أربعة أركان لولا أدباء أهل علم راسخ وعقل واسع وأسلوب رائق عقد لهم نظراؤهم من أهل العلم والفن في تلك الأيام جلسات لتقييم ما دونوه حتى خرجوا بتلك النتيجة فجالت تلك الكتب الأربعة ديار العرب والمسلمين يتدارسها الطالب والعالم فكانت المفاتيح لكل المغاليق والمعبر إلى علوم الآدب وفنونه ورموزه بأوسع صوره واستنطاق للقرطاس والشخصيات لمنافع لا تنضب .
وكما قيل : العلم كالشبكة يتصل بعضها ببعض وإذا تعقد بعضها يتعقد به سائره . ولكنه جاء بحمدالله وحسن توفيقه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين .
لن يكون الإنسان ذا شأن وتقدير وسمعة ورفعة في الحياة الدنيا ومن بعد الممات ما لم ينهل من العلوم والفنون التي تركها الأولون فيسقط ذلك على حياته جميعها فيصبح بها بعد ذلك ذا قيمة ومصدر انتباه من الآخرين فيأخذون مما ترك . والله المستعان .>