ما نُقل عن كتب الفلسفة اليونانية لم يٌراع الصياغة الشرعية لأمتنا الإسلامية
تراثنا – د . محمد بن إبراهيم الشيباني (*) :
استقدم العباسيون أيام المأمون بن هارون الرشيد سنة 132هجرية (749م) الكثير من الإسرائيليين والمسيحيين ، ومن اعتنق من الوثنيين الإسلام ، ومن الديانات الأخرى ، لترجمة كتب اليونان الطبية والفلسفية والعمرانية بشكل عام .
لقد استفادت الأمة الإسلامية مما ترجم من كتب الطب والصيدلة والرياضة والجبر والهندسة ، ونشروها في المعمورة من بغداد إلى قرطبة ، بعد أن أضافوا إليها من علومهم ما كانوا يحفظونه ويمارسونه في مخابرهم .
ولا شك في أن هذه المصنفات قد جعلت من الدولة العباسية منارة علم وجامعة كبيرة ، أمها كثير من طلاب العلم والمعرفة ، لكن ما ترجم من كتب الفلسفة والحكمة والمنطق لم يُصغ الصياغة الشرعية ، ويُعرض على المخابر العلمية ، لا سيما أن علماء الأمة متوافرون في بغداد وما جاورها ، وما بعد عنها في خريطة الدولة الإسلامية .
فكان أثر هذه الكتب سيئا وضارً على عقيدة المسلمين ودينهم وما تركه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في سننه الطيبة السمحة ، التي لا ظلمة فيها ولا قهر ولا تعصب أو تشدد كما قال : ” أتيتكم بها بيضاء نقية ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك ” .
رفضت الأمة آنذاك ما نشره المترجمون من هذه الكتب ، لأنها خالفت الرسالة الخاتمة ، وعطلت ما جاءت به ، لا سيما في العقائد ، فنهض علماء الأمة رداً على هذا التوسع في الترجمات ، من دون وضع ضابط لها .
وقد وافق خلفاء بني العباس على ذلك ، وهم أبناء هارون الرشيد ، لكن معتزلة العصر ممن أخذوا بعقائد اليونان وفارس ، وقفوا وقفة الضد من ذلك ، ولأنهم من المؤثرين والمسيطرين على الساحة العلمية والثقافية والدينية ، ولهم مدارسهم في المساجد وغيرها .
بل لهم عند الخلفاء قربي وزلفى وحظوة ، لم يستطع أهل العلم أن يوصلوا اعتراضهم الذي كان في طبيعته وشكله ، كما هي الحال إلى اليوم ، نصحاً و خوفاً على الدولة وخلفائها ، لا طلباً للقربى والإخلال بالنظام بأي صورة من الصور .
ولكن كما قيل تأتي الرياح بما لا يشتهي الربان ، فكانت محاكمة العلماء ، وعلى رأسهم الأمام أحمد بن حنبل ، مدة فاقت العشرين سنة ، والعلماء على رأيهم ، والمعتزلة على رأيهم ، تخلل ذلك السجون والتعذيب والقتل والتشريد .
وهرب العلماء إلى الديار البعيدة ، لمن لا يوافقهم بعد المناظرة على رايهم ، حتى رق قلب الخليفة الواثق لرأي أحمد بن حنبل ، ووضع حداً لهذه المعركة المزمنة ، حتى قال الأمام أحمد كلمته التي ترددت على القرون حتى يومنا ، قوله لأحمد بن ابي دؤاد عالم المعتزلة (صاحب النفوذ الواسع في عهود ثلاثة من الخلفاء ، المأمون والمعتصم والواثق ) حيث أحرجه فيما يختار حتي ماتت حجته ، وانقطعت حيلته وقبرت منذ ذلك التاريخ .
منذ ذلك اليوم والأمة تعيش التأويلات المنحرفة ، ربما التقول على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ودينه في كل مجال من المجالات الشرعية وغيرها ، ولكن يبقى كتابه باقياً أبد الدهر ، وأهله باقون يردون تأويل الجاهلين ، وباطل المبطلين .
والله المستعان..
*رئيس مركز المخطوطات والتراث والوثائق ومجلة تراثنا.