قراءة في الشخصية والأدب – 1909 – 1999م
منتقى من كتاب (الطنطاوي شاهد على عصره ورجاله)
تراثنا – أ د. أحمد بكري عصلة * :
كان للشيخ علي الطنطاوي ” يرحمه الله ” دروس رمضانية من تلفاز المملكة العربية السعودية بعنوان (على مائدة الإفطار) يقول فيها مازجاً الجد بالهزل: «.. والأحاديث التي تلقى على المائدة في العادة خفيفة ظريفة تفتح الشهية، وتنعش السامع، وأحاديثي هذه السنة ستكون (كما طلب المشاهدون لما استفتيتهم) أحاديث دينية جدية نافعة، فما يقول عني من يسمعها وهو يأكل فتعطل هضمه؟ أسأل الله المعونة عليها».
-
بدوي نزل مدينة فرآهم يأكلون الزيتون الأسود ، فحسبها صراصير ، فصار كلما رأى صرصورا أمسك به فأكله !!
-
الطنطاوي إنسان اجتماعي بطبعه ، يحبه الناس ويحبه أكثر من عرفوه ، له مواقف فكهة لا تمس أحدا من الناس .
-
من طرائفه ما رواه عن الحاج الجاهل الذي صلى بجواره في مكة، وتعريفه الحمار الحقيقي ، وقصته مع خروف ناعس العينين !
أنهم أكلة الصراصير
ولعل حديث الشيخ علي الطنطاوي ” يرحمه الله ” عن أكلة الصراصير ،من هذا القبيل أيضاً. يقول فيها: «من رأى فحلاً وناقة وهما في شهر العسل؟ فسألت: ما هؤلاء؟ قالوا: هم الهيبيون خلفاء قوم آخرين ظهروا في إنكلترة قبلهم،يتسمون باسم الخنافس، والخنفساء أبشع الحشرات اسماً، ومن أشنعها منظراً، وقلدهم ناس منا، فأطالوا شعورهم مثلهم، فكانوا كالذي زعموا أنه عاش عمره في القفر، لم ير الحضر يقترب منه، نزل المدينة يوماً، فرآهم يأكلون الزيتون الأسود، فحسبها صراصير، فلما عاد صار كلما رأى صرصوراً أمسك به فأكله. قالوا: ما تصنع ويحك؟ قال: ما يدريكم أنتم؟ رأيت أهل الحضر يأكلونها! وكثير منا ممن يقلد الأجانب بلا علم وبلا فهم مثل هؤلاء .. إنهم أكلة الصراصير».
مع المجتمع
الطنطاوي إنسان اجتماعي بطبعه، يحب الناس، ويحبه أكثر من عرفوه عن قرب أو عن بعد،. ولعلنا في ما أوردناه من طرائف أبرزنا هذا الذي نعنيه. وكل تلك، سواء كانت مع شخصيات معروفة، أو مع نفسه، هي جزء من المجتمع الكبير الذي يحيا فيه.
الحاج الجاهل
على أننا نجد له مواقف فكهة لا تمس أحداً من الناس، بل تمس المكان العام الذي يحتوي جموع الناس. من ذلك هذه الصورة التي لا تخلو من الفكاهة والنقد معاً لما يحدث في موسم الحج، وأدع الطنطاوي يصفها بقلمه: «.. ثم وجدت مكاناً فارغاً في الصف، فوقفت فيه، وأقيمت الصلاة، فإذا أنا برجل يخترق الصفوف، يمر أمام المصلين، وعليه ثوب يبدو أنه كان يوماً من الأيام أبيض، ثم تبدل لونه على توالي الشهور، وركبته الأوساخ على الأوساخ، حتى لم يعد له لون يعرف.
ولم يكفه ذلك حتى توضأ من زمزم، ونضح الماء على ثوبه فابتل، وصار .. تصوروا ماذا صار؟ ثم لم يَرُقْ له إلا أن يزاحم المصلين، وأن يحشر نفسه بيني وبين جاري، وكنت ألبس ثوباً أبيض، أخذته من دار التنظيف قبل ساعة، فجعلت أضم ثوبي، وكلما رآني ضممته ظن أني أوسع له، فازداد التصاقاً بي، حتى صرنا – كما قال العباس بن الأحنف، ولكن لا مكان لقوله – .. وكان كلما ركع باعد بين رجليه، لأنه سمع أن صف المسلمين يكون متماسكاً متداني الأكتاف والأقدام، حتى كاد ينفسخ وهو يدوس بإحدى قدميه على قدمي، وبالأخرى على قدم جاري.
ودخلنا الصلاة، فكان في حركة مستمرة يسوي عقاله، ويدخل إصبعه في أنفه، ثم يمسحها بثوبه، ويخرج من جيبه خرقة سوداء لعله يعدها منديلاً، فيقربها من فمه، ويصنع فيها ما لا يحسن ذكره ووصفه، وسواكه في يده، يديره في فمه، ثم يعصره بإصبعه، ويتجشأ بصوت منكر، وينظف أذنه بإصبعه .. أي أنه لم يهدأ لحظة واحدة.
وأنا أقول لكم الحق: إني لم أعرف كيف صليت، فلما قضيت الصلاة حاولت أن أفهمه بلطف أن النظافة من آداب المسجد، وأن الخشوع من لوازم الصلاة، فلم يفهم، وقدرت أنه لا يحسن العربية، وظن أني أترفع عنه لأنه كما يقول فقير ويرد كلمة فقير .. فتركته..».
الحمار الحقيقي
ولعل من أطرف وأظرف الصور ذات الطبيعة الفكهة صورة رائعة بحق للمهندس الطبيعي الذي رسم طريق السفر بين المدن؛ إنه الحمار، «… نعم الحمار الحقيقي، لا من هو على المجاز مثل الحمار: كان الدليل يركب حماره ويدعه يمشي على هواه. والحمار كما تعلمون أو لا تعلمون مهندس بالفطرة، فهو يختار من المصاعد أسهلها، فيسلكها، وإذا رأيته يمشي في الجبل على حرفه حتى لتظنه سيسقط في الوادي، فلا تحسب أنه يفعل ذلك جهلاً، بل يفعله مفاخرة لإثبات القدرة والتوازن ، والحمار مظلوم، فمن سبّ منا آخر قال له: يا حمار. فيغضب، مع أن الحمار أحق بالغضب إن قيل له: يا إنسان!!
نعم إن جنس الإنسان أفضل، والله كرم بني آدم وقدرهم، ولكن من بني آدم من ينزل بنفسه عن مكان استحقاق التقدير، فيصير أضل سبيلا. وهل يجترح الحمار من السيئات ما يجترح مثله الإنسان؟ من رأى منكم حماراً يجحد ربه، أو يغش زميله، أو يخون قومه أو يرتكب الفواحش، أو ينظم فيها الأشعار؟ ثم إن من يموت على الكفر يكون يوم القيامة دون الحمار».
من حياة البسطاء
ثمة مواقف تتصف بشيء من الكوميديا، وتأخذ طابع النكتة صاغها الطنطاوي في مكانها من الموقف من دون أن تحمل أية إساءة أو سخرية من أصحابها؛ فهي تضحك ولكنها في الوقت نفسه تعبر بصدق عن أصحابها، وعن راويها الذي ما قصد الإطراف والإمتاع فحسب، بل قصد أن يصور، صادقاً، طبيعة هؤلاء الناس، وعفويتهم، وصدقهم في كل ما يفعلون.
من ذلك أن طبيباً أمر مريضه بالحمية، وحين زاره الطبيب في بيته سأله: لماذا خالفت أمري وأكلت سمكاً؟ قال: ألم تر حسك السمك ملقي على الباب؟!!
والمريض الآخر الذي قال للمريض: خذ من هذا الدواء ثلاثة فناجين قهوة كل يوم بعد الأكل؛ فصار يشرب ثلاثة فناجين قهوة بعد الأكل.
هزوا المريضة
ويحكي أيضاً طرفة عن مريضة وصف لها الطبيب الدواء، وقال لأولادها: تأخذ منه كل ساعتين ملعقة على أن تخضوها (قارورة الدواء) قبل أن تصبوا الدواء منها، ففهموا أن يخضوا المريضة، وكانوا شباناً أقوياء، فكان يمسك أحدهم بيديها والآخر برجليها، ثم يهزونها هزاً، ويشدونها ، ويدفعونها، قبل أن تأخذ الدواء، حتى ذهبوا بالبقية الباقية من قوتها ومن جَلَدها».
بل اسمعه يحكي قصص بعض أصحاب العنتريات الكاذبة حكاية تحمل الكثير من السخرية، وتثير الكثير من الابتسام، من ذلك ما حكاه حين قام بمهمة زيارة قضائية لأحد البيوت، وكان من أهل الزوجة عسكري قوي الجسم … وحين خرج قال الزوج للطنطاوي: أنا سكت عنه إكراماً لك، ولولاك لمصعت رقبته. يقول الطنطاوي: أنا لم أر في عمري رجلاً يمصع رقبة آخر، وأحب أن أرى هذا المشهد .. ودعوت ذلك الرجل القوي، فصار الزوج يرجوني أن أصرفه، وأنقذت الموقف بأن طلبت إليه أن يصلح بين هذين الزوجين».
الطنطاوي والزكرتية
ويدخل في هذا الإطار حديثه عن الزكرتية، وهم خيالة على الفطرة لا يعرفون الكذب، ويسهل قيادهم بالكلمة الطيبة، فقد حط جماعة منهم رحالهم في داره، وهي لا تستوعبهم فكيف يتخلص منهم، يقول: «أين ناشدتكم الله أضع سبعين خيالاً في دار لا تزيد مساحتها على مساحة إسطبل واحد لفرس واحد من هذه الخيول؟ فخرجت إليهم، إلى شارع بغداد.
وكان الجيران قد جاؤوا بقدْرٍ كبير عصروا فيه أرطالاً من الليمون البلدي، وصنعوا شراباً، وجمعوا من بيوت الحارة كل ما عندهم من أكواب وصواني، وخرجت الصواني عليها الأكواب تسقي الفرسان. وألقيت عليهم خطبة من الخطب التي كنت ألقيها في تلك الأيام، خطب حروفها من لهب النار، وكلماتها من تيار الكهرباء، وهي مزدانة بألمع الصور، صور الجهاد الإسلامي من صدر تاريخنا الرائع، الذي لم تملك أمة في الدنيا مثله، وكنت يومئذ أغلي بالحماسة وأتفجر بالشباب، كنت ابن سبع وعشرين سنة، لست الشيخ ابن السبع والسبعين الذي يكتب هذا الكلام.
وامتلأوا حماسة، وتراءت لهم صور الأمجاد من تاريخنا الماجد. ثم قلت لهم وأنا أشير بيدي: إلى الأمام! يا أيها الأبطال إلى الأمام، إلى المجد، إلى العلا، إلى الاستقلال…ومشوا إلى الأمام، فما انتبهوا إلا وهم في القصاع حيث ينتهي شارع بغداد. ما دنوا من المجد، ولكن ابتعدوا عن داري، لا بخلاً ولا لؤماً، فما أنا بحمد الله من البخلاء ولا اللئام، ولكن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها».
الخروف الناعس العينين
وقريب من هذه الأجواء حديثه عن الأكل باليد وقد حضر وليمة لدى إحدى العشائر، يقول: «… وكان الخروف مفتوح العينين فتوهمت أنه ينظر إلينا، وكان ناعس الطرف، فتذكرت ما قال الشعراء في العيون النواعس، ثم رأيت أني إن استرسلت في أوهامي وخيالاتي، بقيت جائعاً، لأن القوم أحدقوا بالقصعة، وشمروا عن سواعدهم، ونظروا شزراً فعل من يقدم على معركة، فخشيت أن يذهبوا باللحم، ويبقى لي الوهم والرز بلا لحم، فأتغدى خيالاً، وأدباً، ويأكلوا هم الخروف، فنسيت عينه المفتوحة، وطرفه الناعس.
واعتذرت إليه، وأقبلت أخوض المعركة، ولكن كيف أخوضها بلا سلاح، بلا ملعقة، إن القوم يأخذون قبضة الرز واللحم فيديرونها حتى تصير كالكرة الصغيرة، ثم يقذفونها في حلوقهم، فتقع في المرمى، وتصيب الهدف، فحاولت أن أعمل مثلهم، فانفلت الرز من بين أصابعي، وملأ السمن كفي، فرفعته إلى فمي، فسال على ثيابي، فجعلت أعمل على إدخاله فمي، فدخلت فيه أصابعي كلها حتى كدت أختنق وما دخل فيه الرز واللحم، وغسل وجهي السمن حتى صار يلمع، لا يضيء بالتقوى ولكن بالدهن، وإني لفي هذه المحنة إذ أحسست بيد تمس كتفي، فظننته يريد أن أفسح له ففسحت، إذا به يزيد في إكرامي، فيأتي بطبق من خالص السمن العربي فيصبه على الرز بين يدي. فقمت وعيني إلى الطعام تملؤه الشهوة إليه، وبطني فارغ تزقزق عصافيره تطلب العودة إليه..».
كاتب وكتاب
منتقى من كتاب ( الطنطاوي شاهد على عصره ورجاله ) للكاتب والأديب أ د أحمد بكري حلمي ( 1952-2021) يرحمه الله . من منشورات مركز المخطوطات والتراث والوثائق ( من أواخر كتابات المؤلف ، تحت الطبع ) .
(*) الأديب والنافد أ .د أحمد بكري عصلة ( 1953-2021 م) يرحمه الله : ( مزيد التفاصيل ) .