الحلقة الخامسة
سلسلة في علم الحديث وتدوينه وجمعه
تراثنا – التحرير :
وفي هذه الحلقة تواصل “تراثنا ” استعراض أبواب كتاب” تدوين الحديث النبوي في أربعة عشر قرناً” رداً على حملة الشبهات المغرضة والافتراءات على السنة النبوية ورواتها وعلماءها ( الحلقات كاملة ) .
تطرح تراثنا الأدلة والبراهين القطعية على إذن الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته بكتابة الحديث وتدوينه ، كما نستفيض في رد الشبهات التي حامت حول راوي الحديث الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه .
• الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر الصحابة بكتابة ما تحدث به في صحيفة رجل من اليمن يقال له أبو شاة : “اكتبوا لأبي شاة “.
• أبوهريرة : ما كان أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر حديثاً عنه مني، إلا ما كان من عبدالله بن عمرو بن العاص، فإنه كان يكتب ولا أكتب .
• كان عبدالله بن عمرو يكتب عن رسول الله صلى الله وسلم كل شيء في الرضا والغضب فنهته قريش فقال له الرسول :”أكتب …” .
• أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتابة لعلي بن ابي طالب ولأحد الأنصار وغيرهما وبكتابة المواثيق والعهود والردود على الملوك.
• شغف أعداء الإسلام في الماضي والحاضر بالطعن في أبي هريرة ومروياته تبعاً لسادتهم المبشرين وإن تظاهروا بالقصد إلى الاقتصار على الأخذ بالقرآن .
• الحاكم ابي عبدالله المتوفي 405 : إنما يطعن في أبي هريرة جهمي أو خارجي أو معتزلي أو جاهل يرون في مروياته ما يخالف زيغهم عن الحق .
• ابوهريرة : لولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا .. وكان الصحابة يشغلهم طلب الرزق وكنت ملازما لرسول صلى الله عليه وسلم فأحفظ ما لا يحفظون .
• رد أبوهريرة على استفسار السيدة عائشة منه عن احاديث يرويها فقال : يا أماه، إنه كان يشغلك عن رسول الله المرآة والمكحلة والتصنع لرسول الله، وإني والله ما كان يشغلني عنه شيء”.
وفيما يلي شواهد لإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لصجابته بتدوين «كتابة وجمع» السنة :
أ – صحيفة أبي شاة
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة ، أنه لما فتح الله على رسوله عام فتح مكة، قام في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «… فقام رجل من أهل اليمن، يقال له أبو شاة، فقال: يا رسول الله .
اكتبوا لي، فقال : «اكتبوا لأبي شاة». قال الوليد بن مسلم:
قلت للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لي يا رسول الله؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله .
ب – كتابة عبدالله بن عمرو بن العاص
وعن أبي هريرة قال: ما كان أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر حديثاً عنه مني، إلا ما كان من عبدالله بن عمرو بن العاص، فإنه كان يكتب ولا أكتب».
وهذا الخبر الذي رواه أبو هريرة، يدل على أن عبدالله بن عمرو بن العاص كان يكتب السنة في عهد رسول الله ، ورسول الله يقره على ذلك.
وروى الإمام أحمد وغيره، أن عبدالله بن عمرو بن العاص كان يكتب كل شيء سمعه من رسول الله في الرضا والغضب، فنهته قريش، فذكر ذلك لرسول الله ، فقال: “اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق”.
الصحيفة الصادقة
والصحف التي كان يكتبها عبدالله بن عمرو عن رسول الله ، جمعها وسماها «الصحيفة الصادقة»، وكان رضي الله عنه يحدث منها، وله تلاميذ كثيرون، منهم وهب بن منبه. وقد روي عن عمرو قوله: ما يرغبني في الحياة إلا الصادقة والوهط “الوهط” : حديقة ورثها عن والده.
صحف و عهود و مواثيق
وهناك صحف، وأذونات بالكتابة من رسول الله ، مثل صحيفة علي بن أبي طالب، وإذنه لأحد الأنصار بالكتابة وغيره من الصحابة، وكتابة العهود والمواثيق، وردوده على الملوك والرؤساء في حينه، مثل المقوقس وهرقل وملك الحبشة، وكسرى وغيرهم، وكتابة أحكام الزكاة، وغير ذلك.
أبو هريرة حافظ الصحابة
هو حافظ الصحابة، وأكثرهم رواية عن رسول الله، وهو «دوسي من بني دوس بن عُدثان»، بطن كبير من الأزد، و«دَوْس»: بفتح الدال وبالسين المهملتين بينهما واو ساكنة.و«عُدثان»: بضم العين وسكون الدال المهملتين ثم ثاء مثلثة، انظر اللباب لابن الأثير (ج01 1 -٤٢٩ و ج٢: ١٢٥-١٢٦). والمشتبه للذهبي (ص٣٥٢). ومعجم قبائل العرب (ص ٧٦١/٣٩٤).
أسلم أبوهريرة سنة سبع من الهجرة. وصحب رسول الله ، ولزمه إلى آخر حياته الطيبة المباركة، ورضي الله عن أصحابه.
واخْتُلِف في وفاة أبي هريرة، والراجح أنه مات سنة ٥٩ للهجرة.
واخْتُلِف أيضاً في اسمه واسم أبيه اختلافاً كثيراً، والراجح أنه كان يسمى في الجاهلية «عبد شمس بن عامر»، وسمي في الإسلام «عبدالله».
وفي التهذيب، أن ابن خزيمة روى من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة: «كان اسمي عبدشمس». ثم قال الحافظ ابن حجر: «الرواية التي ساقها ابن خزيمة أصح ما ورد في ذلك ، ولا ينبغي أن يعدل عنها، لأنه روى ذلك عن الفضل بن موسى السيناني عن محمد بن عمرو. وهذا إسناد صحيح متصل. وبقية الأقوال إما ضعيفة السند، أو منقطعة.
كنية ابي هريرة
وقد اشتهر بكنيته «أبو هريرة»، حتى غلبت على اسمه، فكاد ينسى، وروى الحاكم في المستدرك عنه، قال: كان رسول الله يدعوني «أبا هرّ» ويدعوني الناس «أبا هريرة».
وروى عنه أيضا، قال: «لأن تكنوني بالذَّكر، أحب إلي من أن تكنوني بالأنثى».
ولسنا هنا بصدد ترجمة عن أبي هريرة؛ فإن ذلك يطول جداً، ومصادرها – بحمد الله – كثيرة في كتب الإسلام، ففيها فوائد لمن بصره الله طريق الهدى.
التشكيك في أبوهريرة
وقد لهج أعداء السنة، (أعداء الإسلام في عصرنا)، وشغفوا بالطعن في أبي هريرة. وتشكيك الناس في صدقه وفي روايته. وما ذلك أرادوا، وإنما أرادوا أن يصلوا – بزعمهم – إلى تشكيك الناس في الإسلام، تبعاً لسادتهم المبشرين. وإن تظاهروا بالقصد إلى الاقتصار على الأخذ بالقرآن، أو الأخذ بما صح من الحديث في رأيهم، وما صح من الحديث في رأيهم إلا ما وافق أهواءهم، وما يتبعون من شعائر الغرب وشرائعه. ولن يتورع أحدهم عن تأويل القرآن إلى ما يُخرج الكلامَ عن معنى اللفظ في اللغة التي نزل بها القرآن، ليوافق تأويلهم هواهم وما إليه يقصدون!!
وما كانوا بأول من حارب الإسلام من هذا الباب، ولهم في ذلك سلف من أهل الأهواء قديماً. والإسلام يسير في طريقه قُدُماً، وهم يصمون ما شاءوا، لا يكاد الإسلام يسمعهم. بل هو، إما يتخطاهم لا يشعر بهم، وإما يدمرهم تدميراً.
المعاصرون يقلدون الأقدمين في الزيغ
ومن عجب، أن تجد ما يقول هؤلاء المعاصرون، يكاد يرجع في أصوله ومعناه إلى ما قال أولئك الأقدمون! بفرق واحد فقط: أن أولئك الأقدمين – زائغين كانوا أم ملحدين – كانوا علماء مطلعين، أكثرهم ممن أضله الله على علم!!
أما هؤلاء المعاصرون، فليس إلا الجهل والجرأة، وامتضاغ ألفاظ لا يحسنونها، يقلدون في الكفر، ثم يتعالون على كل من حاول وضعهم على الطريق القويم!!
الحاكم يرد على الطاعنين في ابي هريرة
ولقد رأيت الحاكم أبا عبدالله، المتوفى سنة ٤٠٥هـ، حكى في كتابه المستدرك (٣: ٥١٣) كلام شيخ شيوخه، إمام الأئمة، أبي بكر محمد بن اسحق بن خزيمة، المتوفى سنة ٣١١هـ، في الرد على من تكلم في أبي هريرة فكأنما يرد على أهل عصرنا هؤلاء. وهذا نص كلامه:
«وإنما يتكلم في أبي هريرة، – لدفع أخباره – من قد أعمى الله قلوبهم، فلا يفهمون معاني الأخبار: إما معطل جهمي، يسمع أخباره التي يرونها خلاف مذهبهم – الذي هو كفر – فيشتمون أبا هريرة، ويرمونه بما الله تعالى قد نزهه عنه. تمويهاً على الرعاء والسفل، أن أخباره لا تثبت بها الحجة!
وإما خارجي، يرى السيف على أمة محمد ، ولا يرى طاعة خليفة ولا إمام. إذا سمع أخبار أبي هريرة عن النبي خلاف مذهبهم، الذي هو ضلال: لم يجد حيلة في دفع أخباره بحجة وبرهان، كان مفزعه الوقيعة في أبي هريرة.
أو قدري، اعتزل الإسلام وأهله، وكفّر أهل الإسلام، الذي يتبعون الأقدار الماضية، التي قدرها الله تعالى وقضاها قبل كسب العباد لها، إذا نظر إلى أخبار أبي هريرة، التي قد رواها عن النبي في إثبات القدر؛ لم يجد حجة لصحة مقالته، التي هي كفر وشرك، كانت حجته عند نفسه: أن أخبار أبي هريرة لا يجوز الاحتجاج بها!
أو جاهل، يتعاطى الفقه ويطلبه من غير مظانة، إذا سمع أخبار أبي هريرة فيما يخالف مذهب من قد اجتبى مذهبه واختاره، تقليداً بلا حجة ولا برهان: تكلم في أبي هريرة، ودفع أخباره التي تخالف مذهبه، ويحتج بأخباره على مخالفيه، إذا كانت أخبار موافقة لمذهبه!!
روايات اتهموا بها ابي هريرة
وقد أنكر بعض هذه الفرق على أبي هريرة أخباراً لم يفهموا معناها!! أنا ذاكر بعضها بمشيئة الله عز وجل. ثم قال الحاكم: «ذكر الإمام أبوبكر – رحمه الله تعالى – في هذا الموضع، حديث عن عائشة الذي تقدم ذكري له، وحديث أبي هريرة «عذبت امرأة في هرة» و« من كان مصلياً بعد الجمعة» وما يعارضه من حديث ابن عمر، وبالوضوء مما مست النار. والكلام عليها يطول.
ما كان شيء يشغلني عن الرسول
وحديث عائشة الذي يشير إليه، رواه الحاكم قبل ذلك (٣: ٥٠٩): «عن عائشة: أنها دعت أبا هريرة، فقالت له: يا أبا هريرة، ما هذه الأحاديث التي تبلغنا أنك تحدث بها عن النبي ؟ هل سمعت إلا ما سمعنا؟ وهل رأيت إلا ما رأينا؟! قال: يا أماه، إنه كان يشغلك عن رسول الله المرآة والمكحلة والتصنع لرسول الله ، وإني والله ما كان يشغلني عنه شيء». قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» .. ووافقه الذهبي. وفيما قلنا هنا مقنع لمن هدى الله .
احفظ ما لا تحفظون
وروى البخاري عن عبدالعزيز بن عبدالله، قال: حدثني مالك عن ابن شهاب، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثاً، ثم يتلو :” إنّ الذين يَكتمون مَا أنـزلنا من البينات والهدى إلى قوله ﴿الرحيم﴾، إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله لشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون “.
دعاء الرسول له بالحفظ
وروى البخاري، عن أحمد بن أبي بكر، أبو مصعب، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن دينار، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قلت يا رسول الله، إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه. قال:
ابسط رداءك، فبسطته، قال: فغرف بيديه، ثم قال: ضم، فضممته، فما نسيت شيئاً بعدُ”.
وروى البخاري، عن إسماعيل، قال: حدثني أخي، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: حفظت عن رسول الله وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر، فلو بثثته قطع هذا البلعوم.
ثناء الشافعي عليه
قال الشافعي – رضي الله عنه -: أبو هريرة، أحفظُ من روى الحديث في عصره. وقد كان ابن عمر يترحم عليه في جنازته، ويقول: كان يحفظ على المسلمين حديث النبي ، رواه ابن سعد. وقد دل الحديث الثالث من الباب على أنه لم يحدث بجميع محفوظه، ومع ذلك فالموجود من حديثه أكثر من الموجود من حديث غيره من المكثرين. وأن الحديث في الباب دل على أنه لم ينس شيئاً سمعه، ولم يثبت مثل ذلك لغيره.
وقوله: (ولولا آيتان) مقول (قال)، لا مقول (يقولون) … ومعناه: لولا أن الله ذم الكاتمين للعلم، ما حدَّث أصلاً، لكن، لما كان الكتمان حراماً، وجب الإظهار، فلهذا حصلت الكثرة لكثرة ما عنده.
احفظ الناس
وأخرج البخاري في «التاريخ»، والبيهقي في «المدخل»، من حديث محمد بن عمارة بن حزم، أنه قعد في مجلس فيه مشيخة من الصحابة (بضعة عشر رجلاً) فجعل أبوهريرة يحدثهم عن رسول الله بالحديث، فلا يعرفه بعضهم، فيراجعون فيه حتى يعرفون، ثم يحدثهم بالحديث كذلك حتى فعل مراراً، فعرفت يومئذ أن أبا هريرة أحفظ الناس.
كتابة العلم: عقيب حديث (١١٣) وهب بن منبه، عن أخيه همام، سمعت أبا هريرة يقول: ما من أصحاب النبي أحد أكثر حديثاً مني، إلا ما كان من عبدالله بن عمر، فإنه كان يكتب، ولا أكتب.
حفظ العلم: يقول أبو هريرة: «فما نسيت بعد»، والظاهر – عندي – عدم نسيانه جميع ما سمعه في عمره، لا أنه يقتصر على هذا المجلس فقط.
والعلم الآخر إنما لم يبثه أبو هريرة لأنه كان يتعلق بالفتن، وأسماء أمراء الجور .. ثم إن هذه الأمة إنما ابتليت بالفتن، لأنها رفع عنها عذاب الاستئصال، وعليهم تقوم الساعة، فابتليت بالفتن للتمحيص.
يتبع لاحقا ..
كاتب وكتاب
مقتطف من كتاب : (تدوين الحديث النبوي في أربعة عشر قرنا) لمؤلفه د . محمد بن إبراهيم الشيباني ، يقع في 130 صفحة – الحجم الوسط ، الطبعة الأولى : عام 1430 هجرية – 2009م ) منشورات مركز المخطوطات والتراث والوثائق بالكويت .