الحلقة الرابعة
سلسلة في علم الحديث وتدوينه وجمعه
تراثنا – التحرير :
من المقطوع به أنه لم يكن للحديث في عهد النبي كتَّاب متخصصون لكتابته وتقييده، كما كان للقرآن الكريم (كتَّاب الوحي)، ولكن هذا لا يعني أنه لم تقع كتابة للحديث يومذاك.
وفي هذه الحلقة تواصل تراثنا استعراض ابواب كتاب” تدوين الحديث النبوي في اربعة عشر قرناً ” رداً على حملة الشبهات المغرضة والافتراءات على السنة النبوية ورواتها وعلماءها ( حلقات الكتاب ) .
-
الدلائل الموثقة تشير الى كتابة الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ورضاه بها واستعانته بها بل ودعوته اليها.
-
التعارض في روايات ظاهرها منع كتابة الحديث واجازته وفق بينها بوقوع النسخ او التأويل أو جٌمع بينها .
-
خلص الخطيب البغدادي في كتابه “تقييد العلم ” الى نتيجة تؤكد إباحة الكتابة وجوازها .
-
نهى الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يكتبوا عنه روايات السنة في بدايات نزول آيات القرآن خشية اختلاطهما.
-
ابن الصلاح :أجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته ” تدوين السنة ” ولولا تدوينه في الكتب لَدَرَسَ في الأعصر الآخرة .
فالواقع أن الأحاديث كانت تكتب في ذلك العهد النبوي الكريم، وفي عهد الصحابة رضي الله عنهم؛ غير أن الباحث يقع على ما يثبت نهي النبي عن الكتابة، كما يقع على العديد من الأخبار التي تثبت رضاه بهذا الأمر، أو الاستعانة به في بعض الأحوال، بل دعوته إليه.
التوفيق بين النهي والإباحة
التوفيق بين نصوص النهي و الكتابةولقد حملت إلينا مصنفات العلماء وجهات نظر للصحابة وغيرهم، أخذت أكثر من لون في هذا الموضوع الخطير؛ وإن البحث الجاد في الآثار، ومقتضيات الوقائع يهتدي إلى التوفيق بين النصوص التي يبدو في ظاهرها التعارض، وذلك من طريق الحكم بوقوع النسخ فيما بينها، أو الجمع بين نص وآخر من زاوية التأويل الصحيح.
البغدادي يؤكد الاباحة
ولقد أفرد بعض العلماء هذا الموضوع بمصنف خاص، كالذي نراه عند الخطيب البغدادي – رحمه الله – في كتابه «تقييد العلم» فقد أجاد في هذا المصنف وأفاد بما عرض للآثار والأقوال، وبما وصل إليه من النتيجة التي تعطي إباحة الكتابة وجوازها.
القرآن الكريم وحفظ السنة
ولعلّ من الخير أن نبادر إلى القول إن الأمر لم يكن دائراً في الحقيقة حول التقييد من حيث؛ فإن القرآن الكريم قد كتبه كتّاب الوحي بأمر رسول الله وكانت هذه الكتابة أول صفحة في سجل حفظ الله لكتابه، وفي القرآن نفسه شُرعت الكتابة لما يكون من أمور الدنيا، ونص على توثيقها حفظاً لحقوق الناس من الضياع، وحرصاً على سلامة القلوب والنفوس أن ينالها الأذى، أو تصيبها الجفوة من التعامل، فأولى أن يقيد العلم، الذي هو فيض من سنة النبي ، وإشراقة أحاديثه المبينة عن الله ما أراد، ولاسيما أن الرسول قد أوتي الكتاب، ومثله معه، وبحفظ الحديث حِفْظُ الكتاب، وسلامة بيانه، ولكن الأمر دائر في دائرة ما به يكون التزام ما ثبت عن رسول الله ، والحرص على أن لا تقع الأمة فيما به يخالف هديه صلوات الله وسلامه عليه.
وهكذا كانت مباحث العلماء في هذا الموضوع، صورة عن التحري الصادق لما به تكون صحة الالتزام، والوقوف عند ما به طاعة رسول الله ؛ لأن طاعته من طاعة الله.
منهجه في حفظ القران
لقد أثمر توجيه النبي للصحابة حفظهم القرآن بمختلف الوسائل التي تؤدي إلى المحافظة عليه سليماً من النقص، أو الزيادة، أو سوء التفسير والتأويل، فكان الأمر بتلاوته حتى يُحفظ عن ظهر قلب، وكان الترغيب في التعبد بتلاوته، وفرض قراءته في الصلاة، ومدارسته في مجالس العلم، حتى أصبح القرآن محفوظاً في الذاكرة استظهاراً – حفظاً عن ظهر قلب – حتى إذا تلي غيابياً فإن القارئ لا ينسى شيئاً ولا يخطئ في تلاوته.
لم يتخذ رسول الله كُتَّاباً للسنة كما اتخذ كُتَّاباً للوحي، بمعنى: أنه لم يأمر أحداً من الصحابة بكتابة الأحاديث النبوية وغيرها مما يؤثر عنه ، كما كان يفعل بالنسبة للقرآن الكريم، إلا ما كان من العهود، ورسائل الدعوة للإسلام.
النهي في البدايات
كما أنه في الفترة الأولى من نزول القرآن، نهى الصحابة أن يكتبوا عنه شيئاً غير القرآن الكريم؛ وذلك خشية أن تختلط السنة بآيات القرآن، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله أنه قال: «لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار».
الاذن بكتابة السنة
وكان الإذن بعد ذلك في تدوين السنة لأنها موسوعة الإسلام، ومنها تفاصيل تشريعاته، وآدابه، وتفسير القرآن، وأيضاً لعله أذن بالكتابة ليكون إذنه المحدود في حياته مؤذناً بإذن عام عندما تقتضي الضرورة فيما بعد تدوينها، للمحافظة عليها من الضياع بموت حفاظها، وللمحافظـة عليها من التحريض باختلاط موضوعات الوضاعين وكذبهم.
لقد رويت كراهة الكتابة عن بعض الصحابة؛ كعمر بن الخطاب، وعبدالله ابن مسعود، وزيد بن ثابت، وعدد من التابعين، كما رويت إباحة الكتابة والتقييد عن الكثير من الصحابة أيضاً، كعلي بن أبي طالب، وأنس بن مالك، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وجمع من التابعين.
طالع الحلقة السابقة (الثالثة) : تدوين علم الحديث النبوي في 14 قرنا .
اجماع الأمة خلفاً وسلفاً
غير أن اجماع الأمة انعقد فيما بعد على الجواز، ولم يبق خلافٌ حول هذا الموضوع، ولقد كشف أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله النقاب عن هذا الإجماع، مبيناً ما ترتب على ذلك من الحيلولة دون ضياع الحديث فقال: (ثم إنه زال ذلك الخلاف، وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته، ولولا تدوينه في الكتب لَدَرَسَ في الأعصر الآخر.
وظاهرٌ أن اتجاه كراهة الكتابة، إنما كان أخذاً من حديث مسلم (المتقدم) في نهي رسول الله عن الكتابة، وأمره من كتب عنه شيئاً – غير القرآن – أن يمحوه. غير أن هنالك العديد من الأخبار والوقائع التي تعطي غير هذه الدلالة، وتصحح سنداً قريباً للأكثرين الذين ساروا من الصدر الأول في غير هذا الاتجاه، ورأوا جواز الكتابة وعملوا بها، ودعوا إليها؛ وهم جمهور السلف والخلف.
يتبع لاحقا..
تواصل مع تراثنا