أرادت النازية الترويج لكتاب “كفاحي “بلغة تكسب ود العرب ..
فقدموا أعظم خدمة للعربية والأسلام
تراثنا – كتب د. طلال عبداللطيف الجسار “أكاديمي من الكويت “ : بقصد أو من غير قصد أسهمت أطروحات النازية بقيادة أدولف هتلر في ثلاثينيات القرن الماضية في مفارقة عجيبة حين قامت بصناعة أشهر وأفضل وأكبر قاموس عربي ألماني، لمن يدرس اللغة العربية في ألمانية وأوروبة، وهو قاموس الدكتور المستشرق «Hans Wehr» هانز فير وبعنوان «Arabisches Wörterbuch für die Schriftsprache der Gegenwart»
وترجمته؛ « قاموس اللغة العربية للكتابة المعاصرة» مما حفز اللغوي الأمريكي ميلتون كوان «Milton Cowan» بعد الاطلاع عليه على ترجمته إلى الإنجليزية، لما رأى فيه من فوائد جمة تحت عنوان « Dictionary of Modern Written Arabic».
وفي تأليف هذا القاموس قصة طريفة، فقد كانت البداية كما ذكر بعض الباحثين ومنهم الدكتور الألماني Stefan» «Wild شتيفان فيلد في مقال له بعنوان: « National Socialism in the Arab East between 1933 and 1939» …
• ترجمة كتاب ” كفاحي ” للزعيم النازي هتلر بجودة عربية تستميل العرب كان السبب الرئيس للتفكير في وضع قاموس عربي ألماني .
• أعجبت برلين الهتلرية بفكرة اعتماد اللغة العربية الفصحي للقاموس بدل اللهجات العربية العامية واختير د. هانز فير للمهمة.
• المثقفون العرب قاوموا بعنف محاولات المستشرقين الانكليز للقضاء على اللغة الفصحي في بلاد العرب واستبدالها بالعامية المحلية .
• أغلب أعضاء اللجنة التي شكلها د هانز فير من اليهود الإكفاء لاحقتهم السلطات الالمانية واعتقلتهم واختفوا في معسكرات الإعتقال.
• نجت أغلب مسودات القاموس بأعجوبة من حريق القصف الحرب العالمية الذي أصاب مكتبة جامعة هاله حيث أودع هانز فيها مسوداته .
“الاشتراكية القومية في الشرق الأدنى بين 1933 و 1939″عن وصول رسالة عام 1934 إلى الخارجية الألمانية في برلين من السفير الألماني في بغداد السيد فريتس غروبا يفيد فيها عن انتشار بيع كتاب «كفاحي» للمستشار هتلر في
العراق، وإقبال القراء العرب علي قراءته ولكن كما وضح أو نصح غروبا بأن هناك بعض التعبيرات التي تنتقد اليهود ولا تساهم في كسب القاريء العربي وإن كان العداء تجاه اليهود منتشرا في المنطقة إلا أنه يبقي العرب من الجنس السامي، مما قد يصرف مثقفيهم عن الاهتمام بالدعاية النازية الهتلرية، أضف إلى ذلك بعض المعلومات الخاطئة نتيجة عدم دقة الترجمة العربية للنص الألماني، ولذلك أشار غروبا على الخارجية الألمانية بمحاولة ترجمة كتاب «كفاحي» إلى العربية بإشراف علماء ألمان متخصصين في اللغة العربية وإبعاد بعض التعبيرات التي لا تتوافق مع العقلية العربية ومما قد يدمّر أثر الدعاية النازية التي يتطلع إليها الألمان من وراء ذلك.
أخذت الخارجية الألمانية ما ذكره السفير غروبا على محمل الجد وتم تكليف وزارة الإعلام السياسي الألماني بدراسة الموضوع، وبعد سنتين أبلغت وزارة الإعلام الخارجية الألمانية بجدوى الموضوع وبموافقة هتلر على ترجمة كتابه إلى العربية.
بدأت بعد ذلك فكرة البحث عن مستشرقين متخصصين ألمان في اللغة العربية لوضع خطة هذه الترجمة، اقترح بعض المستشرقين العاملين في وزارة الخارجية أن تكون هذه الترجمة من القوة والبلاغة والمتانة ما يجعلها قريبة من لغة القرآن الكريم والتراث العربي، والهدف طبعا أن تكون باللغة العربية الفصحى وليست بأي لهجة منتشرة من لهجات العربية، حتى تصل إلى أذهان جميع العرب ويُقبل القراء العرب عليها جميعاً، ولاسيما إذا علمنا أن المستشرقين الإنكليز كانوا يبذلون المحاولات الحثيثة لاستبدال العامية بالفصحى في المناطق العربية ويشجعون على الكتابة بها عوضاً عن الفصحى، ما دعا أغلب مثقفي العرب وعاميهم إلى رفض ذلك بل ومقاومته مقاومة عنيفة، على سبيل المثال ويليام ويلكوكس الإنكليزي في مصر الذي ترجم الإنجيل للهجة المصرية.
قصة القاموس
أُعجبت برلين بهذه الفكرة أي اختيار اللغة العربية الفصحى في الترجمة، لكن لم يكن من الممكن عُهدة هذه الترجمة لأي مستشرق ألماني أو أوروبي، فوقع اختيار برلين على أديب عربي من لبنان وهو الأمير شكيب أرسلان للقيام بهذه
الوظيفة، وقد أتم الأمير شكيب مهمته اعتمادا على النسخة الفرنسية من كتاب كفاحي، وتم تسليم الكتاب المترجم إلى وزارة الخارجية، ومما يؤسف عليه فقدان هذه الترجمة بعد الحرب العالمية الثانية وعدم اطلاع العرب عليها. قدمت حينها دائرة شؤون الشرق الأدنى بوزارة الخارجية نسخة من هذه الترجمة إلى بعض المستشرقين الألمان الموثوق فيهم وولائهم كي يقوموا بتفحص الترجمة وتقييم جودة النسخة العربية لطباعتها، لكنّه اتضح أنّه لا يتوفر قاموس عربي-ألماني قادر على مساعدتهم في تلك المهمة، والتأكد من دقة اختيارات الأمير شكيب للمفردات المناسبة للقرَّاء العرب التي تعبر عن مدى فهمه نص الكتاب، فنقل المتخصصون في الاستشراق لدى وزارة الخارجية رؤيتهم بأهمية وجود مثل هذا القاموس من أجل إنجاز ترجمة موفّقة لكتاب أدولف هتلر «كفاحي» أو أي ترجمات مستقبلية للتواصل مع العالم العربي. ومن هنا اقتنعت وزارة الخارجية الألمانية بهذا الرأي، وقررت دعم هذا المشروع بتمويل حكومي.
سمعت وزارة الخارجية من بعض العاملين عندها باسم السيد الدكتور هانز فير المحاضر في جامعة «غرايفسفالد»، والذي قد أعد رسالة دكتوراه بعنوان «خصائص اللغة العربية الفصحى الحديثة»، بالإضافة إلى ذلك بعض مقالاته التي نشرها عن شرح بعض المفردات الإسلامية في العربية المعاصرة، واهتمامه كذلك بجمع وحدات معجمية (مفردات) من كتب الأدباء العرب المعاصرين كطه حسين، وجبران خليل الخ لعمل قاموس تعليمي معاصر للطلاب الألمان الدارسي اللغة العربية، مما حَفَّز وحدا بوزارة الخارجية على تكليفه ترأس لجنة صناعة قاموس للعربية المكتوبة المعاصرة بصيغة عربي- ألماني، واختيار لذلك من يراه مناسبا من المستشرقين لمساعدته، قبل هانز فير هذا التكليف بسعادة وبدأ العمل باجتهاد على تحقيق هذا العمل الذي كان قبل ذلك حلما له لكن أصبح لاحقا من أبرز أعماله.
• وخرج القاموس كاملا في طبعة واحدة عام 1985 وهي الطبعة الخامسة وبعدد صفحات 1444، وذلك بعد وفاة هانز فير بأربع سنوات.
• أصبح القاموس الألماني العربي موردا لجميع اللغات التي تطمح في عمل قاموس للغة العربية مع لغاتها كما فعل الأمريكي ميلتون كوان .
من هو هانز فير؟
درس هانز فير في جامعة هالة ثم برلين اللغات الرومانية والشرقية واختار العربية تحديدا ثم واصل إطلاعه على تاريخ الشرق الأدني وعلومه كالفلسفة وعلم الآثار وأبدى اهتماما بعلوم الإسلام. وبعد أن أنهى رسالة الدكتوراه في «خصائص اللغة العربية الفصحى الحديثة» عام 1935 عمل مساعدا في قسم الاستشراق في جامعة هاله، ثم في عام 1939 انتهى من كتابة الدكتوراه الثانية التي كانت دراسة حول الفصل 35 (التوحيد والتوكل) من كتاب إحياء علوم الدين للأمام الغزالي، انتقل هانز بعد ذلك إلى العمل مدرسا في جامعة غرايفسفالد، وفي عام 1940 كتب مقالا يُخاطب فيه حكومة الرايخ الثالث بأن يجعل العرب حلفاء للنازيين ضد انكلترة وفرنسة والصهاينة في فلسطين، ولما قامت الحرب العالمية الثانية لم يشارك فيها نتيجة إصابته بشلل الأطفال في صباه، مما أعاقه لاحقا عن تحريك يده اليمنى بشكل صحيح وكامل.
ترجمة مضنية
واجه هانز فير في البداية معضلة البحث عن مساعدين له من المستشرقين المتخصصين الذين لهم كعب عال في اللغة العربية ومن أصول آرية فقط، وذلك حسب رغبة القيادة السياسية الألمانية آنذاك، شمل فريق فير د. أندرياس يعقوبي وهو نصف آري من جهة الأم ونصف يهودي من جهة الأب، وهذا ما أعطاه شيئا من الاحترام ومكنه من العمل مع فير عدة سنوات قبل أن تشتد وطأة النازيين على اليهود ثم الحاجة إلى مزيد من الجنود، فيتم تجنيده في منتصف عام 1943 وإلحاقه بالجيش الألماني، وبعد الحرب أصبح على لائحة المفقودين. أما الثاني فهو السيد هاينريش بيكر الذي اعتقلته الشرطة السرية الجستابو عام 1942 لانضمامه لحزب معارض للنازية وتم إلحاقه بالجيش الألماني لكن لم تُكتب له العودة بعد الحرب.
دور د هيدفغ كلاين
ومن هذا الفريق أيضا والذي قدم ملاحظات وخدمات متميزة الآنسة د. هيدفيغ كلاين، اليهودية الأصل والألمانية المولد والنشأة، عُرفت كلاين بأنها باحثة متخصصة في العلوم الإسلامية واللغة العربية خصوصا، أنهت كتابة رسالة دكتوراه حول دراسة نقدية لتاريخ فجر الإسلام عام 1937 وحصلت على تقييم «امتياز» من المناقشين وكذلك إشادة متميزة من المشرف على أطروحتها، آرتور شاده، بأنَّها تتمتَّع بدرجة عالية من الاجتهاد والمثابرة، التي يتمناها المرء، لكن ومع كل هذا لم تُمنح شهادة الدكتوراه لأنها يهودية وبناءً على قرار صادر من وزير الرايخ للتربية والتعليم بتاريخ أبريل 1937، بدأت كلاين بعد ذلك تعاني من التضيق الشديد وصعوبة العيش، حاول أستاذها مساعدتها بإيصال اسمها إلى لجنة هانز فير، وبدأت كلاين تعمل معهم لإنجاز هذا القاموس الذي سيخدم كما ذكرنا ترجمة كتاب كفاحي، وذلك بتسجيل كلمات مختارة من الأدب العربي الحديث وشرحها وترجمتها إلى الألمانية على أوراق وإرسالها إلى لجنة فير مقابل أجر زهيد، وقد مدح فريق هانز فير مساهماتها الممتازة والمفيدة للقاموس، ولكن في النهاية تم اعتقالها عام 1942 من قبل الجستابو وإرسالها إلى معسكرات العمل الشاقة التي أنشأها النازيون في الشرق وهناك لاقت حتفها.
الحرب العالمية و القاموس
ومع صعوبات متعددة واجهها هانز فير كانفراط عقد فريقه، إلا أنه استطاع أن ينجز هذا القاموس في بداية عام 1945، لكن بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية القائمة استحال طباعة القاموس، ولحسن الظن نجت أغلب مسوداته بأعجوبة من حريق القصف الذي أصاب مكتبة جامعة هاله، التي أودع هانز فيها مسودات القاموس. وفي عام 1947 سلمت المكتبة له أغلب هذه المسودات، إلا أنه وجب عليه إعادة ضبط بعض النصوص العربية لما أصابها من تلف.
عقبات ما بعد الحرب
بدأت محاولات فير طباعة القاموس، لكن بسبب الشروط القاسية وإجراءات الموافقة المعقدة بعد الحرب، ثم نقص الورق في ألمانية تأخرت طباعة القاموس عدة سنوات، وفي عام 1952 ظهرت أول طبعة منه لكن بنصف الحجم الحالي، وبعد ما وجد هانز من مدح وثناء على قاموسه، استمر في العمل وإخراج ملحق له عام 1959، وطبع بعد ذلك عدة طبعات تحمل شيئا من التنقيح والزيادة مع ملاحقه المنفصله، ثم أخيرا تم دمج الملاحق مع الكتاب كاملا وخرج في طبعة واحدة عام 1985 وهي الطبعة الخامسة وبعدد صفحات 1444، وذلك بعد وفاة هانز فير بأربع سنوات.
فائدة القاموس
ومع أن السبب الرئيس في صناعة هذا المعجم قد انتفى لكن ظهور هذا المعجم الرائع بعد سلسلة من الصعوبات الجمة خلال سنوات شاقة من العمل المتواصل في جمع الآلاف من جذور الكلمات العربية وشرحها وتفسيرها بدقة بما يقابلها في اللغة الألمانية، مع الاستشهاد من الشعر العربي والأدب الكلاسيكي والأدب الشعبي وكذلك اللهجات العربية كان خير معين لمن يدرس اللغة العربية في الغرب، أضف إلى ذلك ليكون أيضا موردا لجميع اللغات التي تطمح في عمل قاموس للغة العربية مع لغاتها – كما فعل اللغوي الأمريكي ميلتون كوان- في الاستفادة من مادة هذا القاموس وإعادة كتابته إلى اللغة الإنكليزية، وكذلك ليوضح لنا النفس الطويل للباحثين الألمان في العمل الأكاديمي والصبر على مشقاته وصعابه.
المقال أعلاه نُشر في تراثنا – العدد67 سبتمبر /اكتوبر 2018
الصفحة الرئيسية .. تراثنا
اشترك في ايميل خدمة تلقي الاخبار المجاني هنا
تنويه : تعتذر تراثنا عن استقبال مشاركات المتابعين الكرام لأكتفاءها في المرحلة الراهنة ..