الحلقة الأولى
أضواء على حياة البادية في القرن العشرين
تراثنا – بقلم المؤرخ صالح هواش المسلط :
لأهل البادية فنونهم وتراثهم وآدابهم ، تنوعت وتعددت ، بتنوع المواقع التي سكنوها في الفيافي والصحاري ، وبدأت هذه المظاهر بالتلاشي في القرن العشرين بتوقف الغزو ،والاتجاه إلى العمل في وظائف الدولة وغيرها ،فلم يبقى غير التعيش على فنون الماضي وذكرياته ( حلقات الدراسة) .
وقد أصاب المتنبي في وصف عيشة البدو ، وكيفية قضائهم الوقت بالأبيات الآتية ، فقد قال عن لسانهم (*) :
◊◊◊◊◊
إنْ أعشَبَتْ رَوْضَةٌ رَعَيْنَاهَا … أوْ ذُكِرَتْ حِلّةٌ غَزَوْنَاهَا
أوْ عَرَضَتْ عَانَةٌ مُقَزَّعَةٌ … صِدْنَا بأُخْرَى الجِيادِ أُولاهَا
أوْ عَبَرَتْ هَجْمَةٌ بنا تُرِكَتْ … تَكُوسُ بَينَ الشُّرُوبِ عَقرَاهَا
وَالخَيْلُ مَطْرُودَةٌ وَطارِدَةٌ … تَجُرّ طُولى القَنَا وَقُصْرَاهَا
يُعْجِبُهَا قَتْلُهَا الكُماةَ وَلا … يُنظِرُهَا الدّهْرُ بعدَ قَتْلاهَا
هذا ما كان عليه البدو قبلاً، أيام السيف والسنان والخيل والعنان ، رعي رياض ، وغزو وركوب جياد ، وصيد وقنص ، وطراد وجلاد .
البدو وتطور المعيشة
أما اليوم ، وبعد انقطاع سبل الغزو ، وتطور ظروف العيش ، اصبح البدوي لا يكاد يعمل عملا مذكورا إلا إذا رعى الأبل أو الغنم ، أو جلب الغلال وفرش البيت ، وفي الغالب يرى ماشيته ترعى أمامه أو على مقربة منه يراقبها الرعاة ، ويدارونها من دونه .
وكل اعمال البيت تقوم بها النساء ، أما الرجل فلا شغل يدوي يلهيه ، ولا صناعة أو حركة تسليه ، ولا كتاب أو صحيفة يقرأها ، فما لها إذا سوى الأضطجاع والاستمتاع بالبراري الشاسعة ، واشعة الشمس الساطعة ، وهو يترقب مجيء الضيوف إلى بيت الشيخ ، فيسعي لحضور مجالسهم ، ويصغي على ما يأتون به من الأخبار والحوادث الطريفة .
أحاديث أهل البادية
وأحاديث البدو لا تخرج عن موضوعات الغنم والإبل والجو والأمطار ، وبعض الأمور المتعلقة بحياتهم اليومية ، أو العائدة إلى العشيرة الفلانية ، أو الشخص الفلاني ، يتخللها نقد حيناً وتقريض حيناً آخر .
ويتبادل اهل البادية الأخبار ويسمونها (العلوم) ،وما ان يحدث خبر في الحجاز أو في العراق كان خبره يصل إلى ابن بادية الشام وما وراءه من الأعراب ، قبل أن تصل القوافل أو البريد ، فينقل الخبر في الأفواه ، من فم إلى فم .
الربابة
وإذا لم يكن عند البدوي ما يتسلى به من القصص والأخبار التي تكون في العادة نمطا واحدا ، يأخذ شاعر العشيرة ربابة يضرب عليها ، ويفكههم من محفوظه أو نظمه ، بإشعار يدور أكثرها حول المآثر والمفاخر التي جرت لمشاهير الفرسان والغزاة والانتصارات التي احرزوها في ميادين البطولة والبسالة .
سباق الخيل والعرضة
وما عدا هذا النشيد أو القصيد الذي يسمعونه ، فإن لديهم العابا كثيرة يتسلون بها ، كما أنهم يتسلون أحيانا بسباق الخيل ، يطلقونها فيروا الفائز منها ، أو بالعراضة ، وهي ان تجتمع الخيل مستعرض تلعب أمان نساء العشيرة ، ويتسلون تارة بالرقص الذي يجرونه في الأعراس وحفلات الختان وفي أيام الربيع ، وأوقات المتعة والراحة .
الدحة
ويعرف الرقص عند البدو باسم (الدحة)، يقابله عند عربان الديرة وأهل القرى ( الدبكة ) ،و (السجحة) ، والدحة رقصة بأوضاع خاصة ، وأصول مألوفة ، تقوم بها بنات العشيرة ، تتقدم الواحدة تلو الأخرى ،وتعلب دورها ، فتمسك سيفاً في الغالب ، والمتفرجون في الجانبين ، ويقال لهذه اللاعبة ( الحاشي ) وتوصف بأوصاف جميلة ، فتتقدم والقوم حولها كحلقة طولانية ،وتكون هي في الوسط .
وهناك قصاد (منشدون) ودحاحة (هم الذين يرددون مع القصاد ويختمون كل دور بكلمة : دحي ، دحي) وخلال هذا الرقص لا يقع من أحد قط ما يخالف الآداب ، لا في الفعل ولا بالقول .
الضيف الحضري
والمنتدي الوحيد لرجال العشيرة ، هو بيت الشيخ ، لا سيما إذا ضيف من الحضر ، فإذا ما رأوه انسلوا من كل حدب ، وجاءوا لرؤيته ، وقعدوا حوله يرهفون آذانهم لأقواله وأخباره (علومه) الطريفة .
يتبع لاحقا
(*) : مقالة نُشرت في مجلة تراثنا العدد 41 الصادر في ربيع الثاني،جمادي الأول ( 1431هجرية – إبريل، مايو 2010 م ) .
طالع الحلقة ( الثانية ) : آداب شرب القهوة ورفضها وهز الفنجان عند البدو