الحلقة ( 14 )
تراثنا – التحرير :
في الحلقة الرابعة عشر ، تواصل تراثنا نشر متفرقات منتقاة من كتاب ( الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية ) لمؤلفه : محمد بن علي بن طباطبا (1260 – 1309 هجرية )، مقدماً نصائحه ومشورته لما يُعين الملوك والسلاطين في شأن سياسة الراعي والرعية.
-
يُكره للملوك مخالطة الأنذال والسوقة وسماع ألفاظهم الساقطة ومعانيهم المرذولة والجهلة مما يُحط بمنزلة أصحاب الملك ويزري بملكهم.
-
ينبغي أن يخالط الملوك ومعاشرة الأشراف وأفاضل الرجال مما يعلي الهمة ويذكي القلب ويفتق الذهن ويبسط اللسان .
-
استهجن الدستجرداني قيام المستعصم برفع مقام حمّال احسن إليه في سجنه فجعله حاجباً لداره يتصرف بأمور المُلك وكاد أن يوليه عزل الوزراء !!
ما يُكره للملك
ويقول المؤلف بن طباطبا – يرحمه الله – تحت العنوان ( ما يكره للملك ) : ومما يُكرهُ للمك مخالطة الأنذال ، والسوقة والجهال ، فإن سماع ألفاظهم الساقطة ، ومعانيهم المرذولة ، وعباراتهم الدنية ، مما يحظ الهمّة ، ويضعُ المنزلة ، ويُصديء القلب ، ويُزري بالملك .
رفع مقام العوام
ويدعو المؤلف الملوك إلى : مخالطة الأشراف ومُعاشرة أفاضل الرجال ، مما يُعلي الهمّة ، ويُذكي القلب ، ويفتُق الذهن ، ويسط اللسان ، وتلك قاعدة مطردة للملوك ، وما زالوا يُدخلون إليهم عوام الرعية ، ويعاشرونهم ويستخدمونهم ، ولم يخلُ أحدٌ من الخلفاء من مثل هذا ، وكأن لسان حالهم يقول : نحن نخلّي الكبار كباراً ، فإذا اختصصنا عامياً ،نوهنا بذكره ، وقدمناه حتي يصير من الخواص .
خواص إلهية
وينقل ابن طباطا وجهة نظر الملوك بتقريب بعض العوام واستبعاد بعض الخواص بقولهم : كما أننا إذا أعرضنا عن أحدٍ من الخواص ، أذلناه حتي يصير من أراذل العوام ، وكذلك هو فإن هذه خاصية من خواص الملك ، وقد سبق ذكرها ، وكل هذا مأخوذ من الخواص الإلهية ، فإن العناية الإلهية إذا صدرت ذرةُ منها إلى النفوس ، صار ذلك الأنسان نبياً أو إماماً أو ملكا ، وإذا صدرت في حق الزمان ، صار ذلك اليوم يوم العيد الكبير ، وليلة القدر ، وأيام الحج ، وأيام المواسم و الزيارات لسائر الأمم ، وإذا صدرت تلك الذرة في حق المكان صار بيت مكة والبيت المقدس..الخ .
حكاية الحمّال والمستعصم
ويتوقف ليضرب مثالاً توضيحياً فيقول : هنا موضع حكاية : كان ببغداد حمًال يقال له عبد الغني بن الدرنوس ، فتوصل في أيام المستنصر حتى برّاجا في بعض أبراج دار الخليفة ، فما زال يحسن التوصّل إلى ولد المستنصر ، وهو المستعصم آخر الخلفاء ، وكان في زمن أبيه محبوسا .
فما زال هذا البرّاج يتعهده بالخدمة طول مدة الأيام المستنصرية ، إلى تُوفي المستنصر ، وجلس على سرير الخلافه ولده أبو أحمد عبدالله المستعصم ، فعرف لهذا البراج حق الخدمة ، ورتبه متقدّم البراجين ، وفي آخر الأمر استحجبه ( جعله حاجبا ) في باطن داره .
طالع الحلقة السابقة ( 13 ) : دعاء الملوك والسلاطين والأمراء – تراثنا
الوزير ينهض للبراج
واختصه وقدّمه ، حتى بلغ إلى أنه صار إذا دخل إلى الوزير ينهض له ويُخلي المجلس من جميع الناس ، إذا كان ابن الدرنوس حاضراً ، وسبب إخلاء المجلس الوزيري عند حضور أبن الدرنوس أنه يمكن أن يكون قد جاء في مشافهة من عند الخليفة ، ولُقّب نجم الدين الخاص ، وصار من أخص الناس بالخليفة .
تودد الكبار عنده
وبلغ منزلته أنه كان يتعصب لصاحب الديوان عند الخليفة ، وكان صاحب الديوان يعرض مطالعاته ومهامه على يد نجم الدين الخاص ، وكان يُمده في كل سنة بمال طائل ، حتي يحفظ غيبّه ، ويُزكيه في الحضرة الخليفة .
أيهما الأفضل
و في الختام يقول ابن طباطبا : جري بيني وبين جمال الدين علي بن محمد الدستجرداني ، رحمه الله ، كلام في معني هذا ابن الدرنوس ، فصوبت أنا رأي المستعصم في الإحسان إليه ، وقلت : إنه خدمه ، وأثبت عليه حقاً ، وقد كافأه فلا عيب في هذا ، وقال جمال الدين ، يرحمه الله ، ما معناه : إن تسليطه لمثل ذلك الأحمق في أعراض الناس وأموالهم ،وإدخاله في المملكة ، حتى كاد أن يولي الوزراء ويعزلهم ،قبيح من المستعصم ، دليل على جهله ، وإلا فإن كان مراده الإحسان إليه مكافأة له على سابق خدمته ، فقد كان يجب أن يكون ذلك بمال يعطيه ، أو يرفع منزلة لا يختل بسببها أمرٌ في المملكة ، ولا يتطرق بها قدح في عقل الخلبفة .
وكان نظر جمال الدين في هذا المعنى أدق من نظري ، والحق في جانبه ، رحمه الله ، وكانت هذه المفاوضة بيني وبينه ، في كتاب كتبته إليه ، أقتضى الحال فيه ذكر هذه القضية ، وكتب هو الجواب عنه ،وأعاد كتابي إلي لأني التمست منه إعادة كتابي ، والكتابان هما في هذا التاريخ عندي ، بخطي وخطه ، رحمه الله .(*)
يتبع لاحقا ..
(*) ص36-38 ( كتاب الفخري )