ترجمة من كتاب ” ابن السندباد ” للكابتن فليرز
الربان لا ينتظر أن يتحرر يوماً من ديونه ولا يبدي أي مجهود يوصله إلى هذا التحرر
تراثنا – التحرير :
لا تخلو ذكريات الكابتن آلن فليرز في كتابه ( أبناء السندباد ) من دقة في الوصف تميز بها كثير من المستشرقين ، تجعل القارئ يتعايش مع الصورة الذهنية التي رسمها الكاتب ، فيرى ما رآه وكأنها رؤية عين .
نعيش هذه السطور ، مع فليرز في زيارته للكويت عام 1938 م ، وانغماسه مع أسرة الحمد في الحياة الروتينية للأهالي والتجار والبحارة .. منتقاة مادتها من نسخة الكتاب المترجمة.
فليرز يصف يوماً عادياً في الكويت
-
ننزل المدينة كل يوم ، نقضي الصباح نَزور ونُزار ، ونشرب القهوة ونتجاذب الحديث ، ونمر بالتجار والشيوخ والأعيان .
-
ترى الربابنة قد سمنت اجسامهم ويقول أحدهم : ” نصلي ثم ننام ونأكل ونملأ نفوسنا سروراً ..هذا شيء جميل ” !
-
الاستدانة من الأمور المألوفة في حياة الملاحة في الكويت فالبحارة مدينون للربابنة ، والربابنة للتجار، والتجار لتجار أعلى منهم !
-
الربابنة وإن كانوا يعتبرون أنفسهم ملاكاً للسفن فإنهم ليسوا كذلك في الحقيقة ، لأن التجار هم الملاك في الواقع !!
يقول الكابتن في فليرز في وصفه ليوم اعتيادي في كويت عام 1938 م : ” لقد مكثت في هذه المدينة اللطيفة (الكويت) أربعة أشهر؛ ذهبت أثناءها إلى مغاصات اللؤلؤ، وتجولت على ساحل الاحساء، وزرت العراق وجزر الخليج، وكان كل يوم يمر يعلمني شيئاً جديداً. وحينما غادرت الكويت كان لا يزال أمامي الشيء الكثير لأتعلمه ” .
ويستطرد بالقول : “قضيت فترة من هذه المدة عند أصدقائي آل الحمد في بيتهم الريفي بقرية الدمنة خارج مدينة الكويت، على ساحل الخليج الرملي ” .
-
نستحم في البحر صباحاً ومساءً ، ونتحدث ثم ننام ، وقد ألتحفنا بنجوم السماء وتوسدنا الرمال .
في البحر صباح ومساء
وعن نمطية الحياة اليومية يقول : ” وقد كنا نستحم في البحر صباحاً ومساءً ، وننام في الظهيرة عندما يشتد الحر ونضطجع على الرمال ، في المساء نتحدث ثم ننام على نغمات الأمواج وهي تداعب الساحل، وقد التحفنا بنجوم السماء وتوسدنا الرمال، وكان الجو في الدمنة أحسن منه في المدينة نفسها ، حيث يلطف هواء البحر الجو ولا يصل سموم الصحراء إلى هناك “.
نزور ونُزار
ويتواصل حديثه موضحاً : “وننزل المدينة كل يوم حيث نقضي الصباح نزور ونُزار، ونشرب القهوة ونتجاذب أطراف الأحاديث ،ونمر على هذا التاجر وذاك ،ونحيي الشيوخ والأعيان ، ونقضي فترات جالسين على السجاجيد المفروشة داخل الدكاكين أو خارجها ،ننظر إلى الحياة التي تزدحم حوالينا “.
وعند الظهر نعود إلى الدمنة ” السالمية حالياً ” لنتغدى ثم ننام ونستيقظ لشرب الشاي والاستحمام في البحر، ثم نعود مرة أخرى إلى سوق الكويت في جو العصر الرطب لكي نعيد كرة الصباح.
وإقرأ ..
*الحلقات والدراسات والبحوث والتقارير التاريخية المنشورة في تراثنا
نصلي ونأكل
وينقل فليرز على لسان أحد التجار قوله : ” على هذه الصورة يقضي معظم التجار وقتهم، بينما تسير أعمالهم من نجاح إلى نجاح .. وترى الربابنة وقد سمنت أجسامهم من الراحة وحسن الغذاء.
“إننا نصلي ونأكل ونملأ نفوسنا سروراً، هذا كل ما نفعله حينما نكون في أرض الوطن» هذا ما قاله لي أحد الربابنة، ثم أضاف إلى ذلك قوله «إن هذا شيء جميل، ولكن الرجوع إلى البحر جميل أيضاً..” .
هموم البحارة
ولا ينسى فليرز الجانب الأخر ، وهم البحارة فيقول : “إذا كان التجار والربابنة ينعمون بهذه الحياة فإن البحارة لا ينعمون بمثلها، فبعد وصولهم من السفر بقليل يختفون مرة أخرى من السوق؛ حيث يذهب كثير منهم إلى مغاصات اللؤلؤ “.
منوها بأن :” موسم صيد اللؤلؤ يبدأ حينما تصل السفن الكبيرة إلى الكويت ، كما انه ينتهي حينما يبدأ ميعاد سفر هذه السفن، وقد لاحظت أن نفس البحارة يعملون في الموسمين مما يجعل حياتهم جد شاقة” .
وبستدرك بأن هناك فسحة من الحياة للبحارة تنحصر كما يقول : “في أيام معدودات يُرى البحارة يختالون في السوق ،وقد لبسوا أحسن ملابسهم، وفي أيديهم العصي والسبحات، يجلسون في المقاهي والدكاكين يتبادلون الأحاديث والقصص” .
لا يملكون بيوتا
ويصف فليرز نمطية العيش عند البحارة في الأيام العادية حيث لاعمل فيقول : ” كثير من هؤلاء البحارة لا يملكون بيوتاً، وإذا كان البحار شاباً ووحيداً فإن القليل يكفيه لكي يعيش..وقد ترى الشباب العزاب منهم ملتفين بعباءاتهم نائمين على الساحل تحت ظلال السفن، كما تراهم يخدمون بإخلاص غير مكترثين بالمتاعب، مرحين، وفي حالة معنوية عالية ، ولكن الأمر يختلف عندما يعودون من الغوص خائري القوى منهكي الأعصاب” .
بين دائن ومدين
ويضع فليرز يده على محور الحياة في الكويت القديمة فهي في نظره قائمة على : ” نظام السلف والدَّين يبتلع أغلب أرباح البحارة، وقد لاحظت أنه من الصعوبة ألا يستدين بحار ما، بل إنك لا تجد بحاراً يحاول ألا يستدين، ويبدو أن الاستدانة من الأمور المألوفة في حياة الملاحة في الكويت فالبحارة مدينون للربابنة ، والربابنة للتجار، والتجار لتجار أعلى منهم ، وهكذا الأعمال جميعها ترتكز على مبدأ الاستدانة” .
التجار هم الملاك
ويستكمل تلك الحقيقة بأمر فيقول : “لقد كان من الواضح أن الربابنة وإن كانوا يعتبرون أنفسهم ملاكاً للسفن فإنهم ليسوا كذلك في الحقيقة ، لأن التجار هم الملاك في الواقع” !!.
ويقول موضحاً :”يرى التجار أنه من الملائم لهم أن يمولوا الربابنة بدلا من أن يجهزوا السفن بأنفسهم ، وبهذه الطريقة يمتلك التجار الربابنة إلى جانب السفن، لأن الربان لا ينتظر أن يتحرر يوماً ما من ديونه، بل ولا يبدي أي مجهود يوصله إلى هذا التحرر.
الرضى بالحياة
ويختتم هذا الوصف الدقيق بالقول :” يلوح لي أنهم راضون بهذا النوع من المعيشة ، وهم لو حاولوا رفع مستوى حياتهم لتحولوا إلي تجار بدلاً من ربابنة .. ولكن يبدو لي أن قليلين جداً من التجار كانوا ربابنة قبل أن يصلوا إلى مراكزهم هذه”!
* الكاتب: آلن فليرز سنة ١٩٣٨م وقد زار الكويت مرة أخرى عام ١٩٦٧م كان في ضيافة وزارة الاعلام ورفقة صديقه النوخذة علي النجدي رحمه الله.
وفي الختام ..
تتساءل تراثنا عند مدي التصاق الصورة النمطية التي صبغت حياة المواطن الكويتي في الماضي مع اليوم في بعض جوانبها.. قارن واحكم ..و وتفاعل واكتب تعليقك !