الحلقة (22)
تدوين الحديث النبوي الشريف
تراثنا – التحرير :
تواصل تراثنا استعراض جهود علماء الحديث في القرن الثالث عشر هجري في السير على نهج من سبقهم في القرون السابقة في الذب عن السُنة النبوية وصونها .
وفي الحلقة (22) نستكمل نشر حلقات كتاب ” تدوين الحديث النبوي في اربعة عشر قرناً ”من اصدارات مركز المخطوطات والتراث والوثائق ، حيث نواصل استعراض جهود العلامة أحمد شاكر و محمد فؤاد بن عبدالباقي وغيرهما من العلماء الافاضل في الذب عن السنة النبوية الشريفة ( حلقات الكتاب ) .
يجدر الذكر أن للعلامة أحمد محمد شاكر أضافة إلى ما ذكر في الحلقة السابقة في الأدب والفقه والتراث الإسلامي المؤلفات الكثيرة اخترنا منها فقط كتب الحديث.
شاكر والأمام احمد
في مقدمة تحقيقه على مسند الإمام أحمد يروي الشيخ أحمد شاكر كيف هدي إلى حب السنة النبوية المطهرة وبداية خدمته لها بقوله: فإني حين هُديت إلى حب السنة النبوية المطهرة، والشغف بالفقه فيها، والتعمق في علومها، والتنقيب عن روائعها ونفائس كتبها، وذلك منذ بضع وثلاثين سنة، في أوائل الشباب، بعد استكمال الدراسة الأولى، وجدت في دارنا، في كتب أبي رحمه الله، الصحاح ناصر السنة وقامع البدعة، الإمام أحمد بن حنبل، رضي الله عنه. فوجدته بحراً لا ساحل له، ونوراً يستضيء به، وسكن تنقطع الأعناق دونه، بأنه رُتب على مسانيد الصحابة، وجُمعت فيه أحاديث كل صحابي متتالية دون ترتيب، فلا يكاد يفيد منه إلا من حفظه، كما كان القدماء الأولون يحفظون، وهيهات، وأنى لنا ذلك. فشغفت به وشُغلت، ورأيت أن خير ما تخدم به علوم الحديث أن يوفق رجل لتقريب هذا المسند الأعظم للناس، حتى تعم فائدته، وحتى يكون للناس إماماً، وتمنيت أن أكون ذلك الرجل.
ابن تيمية وبن القيم وبن كثير
ثم وجدت أكابر المحدثين وأئمة الشراح والمؤلفين، كان شأنهم بالنسبة للمسند قريباً من شأننا، فما كان ليقدم على النقل منه أو على تحقيق رواية فيه إلا فردٌ بعد فرد، وعامتهم ينقلون عمن قبلهم، ويقلدون في نسبة الحديث إليه من سبقهم، إلا بضعة رجال كانوا كأن المسند كلَّه على أطراف ألسنتهم، كانوا يعرفونه حقاً، ولا أكاد أجزم بتسمية أحد من هؤلاء إلا ثلاثة: شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين ابن تيمية، وتلميذاه الحافظان الكبيران، شمس الدين بن القيم، وعماد الدين بن كثير.
فكان هذا المقصد أمنية حياتي، وغاية همي، سنين طويلة، أن أقرب هذا (المسند) للناس، حتى وفقني الله، منذ أكثر من خمسة عشر عاماً إلى ما أريد، على النحو الذي أريد: أن يكون (المسند) بين أيدي العلماء والمتعلمين، كما هو، كما ألفه مؤلفه الإمام، وأن تكون له فهارس وافية متقنة، علمية ولفظية.
محمد فؤاد عبدالباقي
ومنهم الأستاذ محمد فؤاد عبدالباقي (1299-1388هـ) في كتابه الفرد «اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان» إماما المحدثين البخاري ومسلم، يقول في مقدمة الكتاب «وقد ألزمني فيه ذكر نص حديث البخاري الذي هو أقرب النصوص انطباقاً على نص الحديث الذي اتفق فيه مسلم معه، فكان لهذا الإلزام من جانبه، والالتزام من جانبي، عسر ومشقة دونهما كل عسر ومشقة. ويكفيني دلالة على صعوبة القيام بتنفيذ هذا الالتزام أن أحداً ممن ألف، أو قال، إن هذا الحديث متفق عليه، لم يتقيد قط بمثل هذا القيد.ذلك لأن الحافظ ابن حجر، وهو أستاذ الدنيا في علم الحديث، قرر فيما قرره، أن المراد بموافقة مسلم للبخاري، وموافقته على تخريج أصل الحديث عن صحابيّه، وإن وقعت بعض المخالفة في بعض السياقات.
وهذا الإمام النووي، شارح صحيح مسلم، لما وضع كتابه (الأربعون النووية) وابتدأه بحديث الأعمال بالنية، وأشار إلى أنه مما اتفق عليه الشيخان، لم يذكر أقرب نصوص البخاري إلى نص مسلم، بل ذكر أول نص أخرجه البخاري في صحيحه، وبينه وبين الحديث الذي أخرجه مسلم بعض المخالفة في السياق، … هذا العناء الذي يعترضني ويكاد يقف سداً دون هذا الالتزام، قد ذلله كتاباي: (جامع مسانيد صحيح البخاري) و(قرة العينين في أطراف الصحيحين) فمن الكتاب الثاني أهتدي إلى الأحاديث المتفق عليها مع إحصائها وحصرها، ومن الأول أقف على النص الذي ألزمنيه الناشر، والتزمته أنا.
أما قيمة كتاب (اللؤلؤ والمرجان) فقد قال الإمام تقي الدين أبو عمرو عثمان ابن عبدالرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر النصري الشهرزوري المعروف بابن الصلاح، عند ذكر أقسام الصحيح، ما يأتي:
فأولها، صحيح أخرجه البخاري ومسلم جميعاً.
الثاني، صحيح انفرد به البخاري، أي عن مسلم.
الثالث، صحيح انفرد به مسلم، أي عن البخاري.
الرابع، صحيح على شرطهما، ولم يخرجاه.
الخامس، صحيح على شرط البخاري، لم يخرجه.
السادس، صحيح على شرط مسلم لم يخرجه.
السابع، صحيح عند غيرهما، وليس على شرط واحد منهما.
هذه أمهات أقسامه، وأعلاها الأول، وهو الذي يقول فيه أهل الحديث كثيراً، صحيح متفق عليه، يطلقون ذلك ويعنون به اتفاق البخاري ومسلم، لا اتفاق الأمة عليه؛ لكن اتفاق الأمة عليه لازم من ذلك وحاصل معه، لاتفاق الأمة على تلقي ما اتفقا عليه بالقبول.
وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته والعلم اليقيني النظري واقع به.
ولا أعلم كتاباً جمع فيه مؤلفه الأحاديث المتفق عليها إلا كتاب (زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم) لأستاذنا الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي، ولكنه لم يستوف فيه جميع المتفق عليه، بل اقتصر على الأحاديث القولية مرتبة على حروف المعجم حسب أوائلها وضم إليها الأحاديث المصدرة بلفظ (كان) من شمائله ، وكذا الأحاديث المصدرة بلفظ (نهى). فكان عدد جميع أحاديث الكتاب 1368 حديثاً … ومن هنا كان الفرق بين عدد الأحاديث التي جمعها مؤلف كتاب (زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم) وقدرها 1368، وبين عدد أحاديث (اللؤلؤ والمرجان)، وقدرها ٢٠٠٦.
ثم ختم مقدمته التي هي بيان لعمله الضخم العظيم بقوله: فدونك أيها القارئ كتاباً أحصى جميع الأحاديث التي هي في أعلى درجة من درجات الصحة، فأحرز نفسه في حرزه، واشدد يديك بغرزه.
وللأستاذ محمد فؤاد بن عبدالباقي بن صالح بن محمد من الأعمال الأخرى التي خدم بها الحديث النبوي وتنسيقه ووضع الفهارس لها ولآيات القرآن الكريم ، ترجمته لكتاب «مفتاح كنوز السنة» عن الانكليزية ، مطبوع في خلال درسه لها، و«تفصيل آيات القرآن الحكيم» عن الفرنسية، وصنف «تيسير المنفعة بكتابي مفتاح كنوز السنة» مطبوع و«المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم» مطبوع و«معجم غريب القرآن» مطبوع وفهرس «موطأ الإمام مالك« مطبوع و«سنن ابن ماجه» مطبوع و«صحيح مسلم» مطبوع وأضاف اليها شروحاً، وخرّج الأحاديث والشواهد الشعرية في كتاب «شواهد التوضيح والتصريح لابن مالك» مطبوع وخرج أحاديث «الأدب المفرد» مطبوع للبخاري. وله «جامع الصحيحين» مخطوط و«أطراف الصحيحين» مخطوط – مطبوع، و«جامع المسانيد» مخطوط و«المسلمات المؤمنات؛ ما لهن وما عليهن، من كتاب الله والحكمة» مخطوط وأشرف على تصحيح «محاسن التأويل» مطبوع سبعة عشر جزءاً للسيد جمال الدين القاسمي. وكان يقول الشعر في صباه.
يتبع لاحقا ..