تراثنا توثق رحلة ديكوري مع ملوك بغداد الثلاثة
(الحلقة 2 )
تراثنا – كتب د. محمد بن إبراهيم الشيباني :
تستكمل تراثنا نشر انتقاءات مما دونه العقيد جيرالد سبمسون ديكوري الملحق العسكري في السفارة البريطانية ببغداد في الفترة بين سنتي 1924 , 1929 في كتابه ” ثلاثة ملوك في بغداد ” حيث كان له دور مؤثر في حقبة الحكم الملكي في العراق في مراحلها الاخيرة ، كما مارس دوراً مؤثرا عندما ابتعث ليكون ضابط اتصال في السعودية عام 1940 ، الجدير بالذكر ان ديكوري كان خلال الفترة من 1936 الى 1939م معتمداً سياسيا لبريطانيا في الكويت في حقبة الشيخ أحمد الجابر الصباح وسعى خلالها لبث الفرقة بين الحاكم والشعب لصالح العراق فتم طرده من البلاد باعتباره شخصية غير مرغوب فيها .
• في أول زيارة لهن خارج العالم الإسلامي خشيت الملكة نفيسة والملكة الأم (عالية) والأميرات من الظهور علانية في الاماكن العامة .
• لم ينس وصي العرش عبدالاله توقف ونستون تشرشل وإقباله عليه وتحيته رغم أخفاق الاخير في الانتخابات البرلمانية أعقاب الحرب .
يذكر العقيد ديكوري في مذكراته أنه طلب عبد الإله ” الوصي على العرش ” إلى أرشد العمري وهو من إحدى الأسر الموصلية ، والذي تولى منصب أمين العاصمة مرات عدة ، أن يؤلف الوزارة .وما أن تمت التشكيلة حتى رغب عبد الإله في السفر إلى لندن عن طريق القاهرة ، واستطعت أن أتأكد في اليوم التالي من السفارة البريطانية بأن إحدى طائرات شركة ( الخطوط الجوية البريطانية) على استعداد لنقله في اليوم الثاني من حزيران ( يونيو ) عن طريق اللد والقاهرة ومالطة ونابولي ومارسيلية إلى لندن . لقد كان عبد الإله يود أن يسافر بطائرته البريطانية الجديدة ، ولكنه وجد بعض الخلل فيها .
سافرنا سويا (عبد الإله ونوري وديكوري)
سافرت أنا “الكلام للعقيد ديكوري ” ونوري السعيد مع عبد الإله ، وكان في حاشيته النقيب الطيار جسام محمد وهو ملاح من القوة الجوية العراقية وقد مكث مع عبد الإله حتى وقوع الثورة في سنة 1958 وكان مع عبد الإله أيضاً اثنان من مرافقيه العسكريين هما عبد الحليم وعبد القادر، بالإضافة إلى مرافق جديد كان ضابطاً في المدفعية وشاعراً في الوقت ذاته وهو إبراهيم عبد الرحمن، وهو فتى ذو ظرف فريد ، ومزاج غير عسكري . لقد كان نوري السعيد يؤمن بالمواهب العالية لهذا الشاب في ميدان الشعر ولذلك كان يوصي به خيراً . كان يتحدث بين الفينة والفينة عن أشعاره إلى البلاط بما يسر كل فرد كان الجميع ينصتون طويلاً دونما ملل وكلل إلى قصائده الملحمية .
في لندن
وفي لندن استقبلنا القائم بالأعمال العراقي هناك ، السيد شاكر الوادي ، والذي سبق له أن قدم من إنكلترا لمواجهة الملك فيصل ومن ثم عاد إلى هناك بحيث كان موجوداً في مطار مرسيليا حيث ذكر لنا بأنه قد أعد للأسرة الملكية مسكناً في « جروف لوج « بمنطقة (( بركنل )) على مقربة من ” وندسور” وكانت تلك المرة الأولى التي تخرج فيها سيدات من الأسرة خارج حدود العلم العربي .
• ديكوري : انتهت الحرب العالمية والثانية ونحن نتطلع بتفاؤل للملك الصبي الذي كان مطابقاً لآمالنا وآمال الشباب العربي !
• سقط الملك مريضا نتيجة نوبة ربو حادة بعد قيامه بجولة تفتيش حرس شرف عند الحدود العراقية وآخر في الموصل بمناسبة عودته .
يوم النصر البريطاني
لم يكن عبد الإله يرغب في أن تتناول أخته ملكة العراق ، طعام الغداء في القصر أثناء الاحتفال بيوم النصر ، إذا ما أضيفت الصفة العامة عليه ، أو إذا ما سمح بنشر صورها . وللسبب ذاته تستطيع ملكة العراق أن تكون مع ملكة بريطانية أثناء المسيرة لأن العالم الإسلامي ينتقد ظهور النساء المسلمات في المناسبات العامة . ومع كل ذلك فقد ذهبت النسوة الهاشميات إلى خياط الملكة بأسرع ما يمكن ، في حين ذهب الملك الصبي إلى محلات ( سلفرج ) لكي يتسوق من هناك حاجياته ومن ثم يشاهد منطقة ” جروف لوج ” فيما بعد ، وكان فيصل الثاني يشكو من برد شديد لكن ذلك البرد توقف فجأة أثناء مكوثه هناك.
قاعدة التحية وخشية الأميرات
في اليوم الثامن من شهر حزيران (يونيو) ذهب عبد الإله إلى قاعدة التحية حيث أعد مكان لوقوف الأسرة الملكية البريطانية فيه . أما الملكة نفيسة ، والملكة الأم ( عالية ) والأميرات فقد كن يخشين من الظهور علانية ـ فقد وضعن حسبما رغبن ذلك في مكان مقابل لمحل الوقوف الملكي ، وليس داخله ، وكان فيصل الثاني يتحدث مع الأميرة ” الكسندرا ” ويذكر لها قضايا عدة مطولة بمنتهى الرقة .
فرح الأميرات بلبس القبعات
تناول عبد الإله ، وفيصل ، وعالية طعام الغداء في القصر . وأبدى فيصل في حديثه مع أمه شديد فرحه لعودته . وكانت السيدات يرتدين القبعات لأول مرة في حياتهن ، وكن في المساء يتناولن عشاءهن علانية في غرفة الطعام بفندق ” كلا رج ” وفي اليخت الذي قدمن فيه إلى إنكلترا ، وكان الدكتور سندرسن طبيب الملك ومعلمه ، يتناول معهن طعام العشاء ، غير أن تلك كانت أول مرة يتناولن فيها طعام العشاء مع الآخرين .
مشاهدة الألعاب النارية
بعد تناول العشاء ، بمعية عبدالإله، والنقيب (هيوكروداس) من البعثة العسكرية البريطانية في العراق ، والذي منحه عبد الإله ترقية ، و «هاروود» من شرطة اسكوتلانديارد، قمنا بمسيرة عبر الحدائق والمتنزهات إلى منطقة ” هورسغاد ” مروراً بقصر بكنغهام ، وذلك لمشاهدة الألعاب النارية وما أن بلغنا القصر تماماً حتى خرجت الأسرة المالكة البريطانية إلى الشرفة ، استجابة للأصوات المتكررة التي كانت تطالب بذلك .
كان الازدحام في منطقة « مال « شديدًا جداً ، ولذلك تشابكنا بالأيدي أنا وعبد الإله ، وكر وداسى ، وهاروود ، لكي نحول دون تفرقتنا . وفعل الآخرون ما فعلناه نفسه ، سواء من الجنود أو الملاحون ، والطيارون والمدنيون . كان كل فرد في نشوة من الفرح . وفي وسط مثل هذا المشهد من الاحتفال الديمقراطي ، تصدت لنا إحدى السيدات فانحنت أمامنا بمنتهى المجاملة . لقد كانت تلك المرأة هي « شارلوت « زوجة « بونهام كاتر وكان يصحبها ، « هارولد فريز بنفاذر « من وزارة الخارجية البريطانية الذي حيانا هو الآخر بانحناء أيضاً . وإذ فعلا ذلك توقفا عند خط من الملاحين متشابكي الأيدي ، وقد ارتسمت على وجوههم أعظم التعبيرات السافرة حين كانوا ينظرون إلى المشهد القائم أمامهم .
يـوم لاينسى
لم ينس عبد الإله هذا اليوم ، وكان فخوراً بحضوره . كما أنه لم ينس رؤية ” ونستون تشرشل ” وهو يخرج من غرفة الطعام الخاصة في فندق ” كلارج ” من دون أن يلمح على وجهه أي أثر للاضطراب في تلك الليلة التي أخفق فيها في الانتخابات البرلمانية في أعقاب الانتصار في الحرب العالمية ، ولذلك لم ينس عبد الإله توقف ” ونستون تشرشل ” في تلك اللحظة ، وإقباله عليه ، وتبادل المجاملات معه .
• كان الملك فيصل يتصرف بلباقة في كل الأعمال التي يمارسها والاجتماعات التي يحضرها باعتباره ملكا رغم أنه كان طفلا صغيراً .
العراق في حقبة الخمسينيات ” صورة “
مربية فيصل
وقد حدث في الوقت الذي كان فيه فيصل الثاني يعيش في ” بركنل ” أن زار المسكن أحد الإنكليز في يوم من أيام الصيف ، وأصابته الدهشة لحادث وقع عندما كان ينتظر في ممشى المدخل الذي يمتد خلال الدار إلى الحديقة ، فقد انحنت له إحدى السيدات مرتين ، ثم عادت إلى الوراء واستدارت خارج إحدى الغرف ، ومن ثم أتت فوقفت أمامه . لقد سعل ذلك الإنكليزي ، وعندما سارت المرأة قدماً ثم استدارت نحوه ، وجد أنها كانت مربية فيصل ، حيث خاطبته قائلة : إنني أبحث عن حشرة قارضة أضاعها جلالته في مكان ما ! .
مرض الربو
هبط فيصل ميناء بيروت في طريق عودته إلى بغداد بالقطار عبر الأراضي السورية ، وحين كان في إنكلترا خف كثيراً داء الربو الذي كان يعاني منه ، ولقد حدثتني ” عالية ” عن مدى سعادتها وهي تعتقد بأنه سوف يتخلص من هذا المرض في النهاية بعد أن يكبر .
أنتي لبنان
جرت مشاهد مجاملات معتادة في سورية ، بما في ذلك أمامه حفل غداء أقامه رئيس الجمهورية اللبنانية في شتورة في الوادي الذي يفصل بين لبنان وجبل « أنتي لبنان فقد مدت المائدة على حافة نهر صغير هناك بين الأشجار التي كانت تلوح عليها بصفة جزئية أنوار الشمس المشرقة ، حيث ألقى الرئيس خطاب استقبال قصير ، سواء عند الباخرة التي كان يستقلها ، أم في الشوارع التي كان يسير فيها ، ولقد فعل الموظفون السوريون الشيء ذاته .
توديع الملك فيصل
إنتهت الحرب العالمية الثانية وكنا نتطلع إلى المستقبل بتفاؤل ، وقد بدا على الملك الصبي بأنه كان مطابقاً لآمالنا وآمال الشباب العرب ، كان القطار ما لبث أن توقف عند مفترق الطريق ومن دون سابق إنذار ، وإذ ذاك خرج الرئيس إلى القطار للتوديع ، وكان قد قطع مسافة طويلة بالسيارة لكي يفعل ذلك .
سقط الملك مريضا
حين اقتربنا من الحدود العراقية ، أقبل أحد المرافقين على الملكة عالية لكي يذكرها بأنه سيكون هناك حرس شرف يقوم فيصل بتفتيشه عند الحدود ، وكان فيصل يمرح معنا وقد خلع سترته ، وبدا أنيقاً مهندماً يظل طلعته ضرب من التردد الطبيعي وما أن صعد إلى القطار ثانية حتى أخذ داء الربو يظهر عليه مجدداً وبعد ساعات قلائل كان هنالك حرس شرف آخر في الموصل وقبل أن نصل إلى بغداد سقط فيصل مريضاً نتيجة نوبة حادة من الربو .
بعض من أسباب مرض الربو
كانت الحشود والقوات المسلحة في انتظاره ، ولم يستطع أن يواصل خطواته بينهم إلا بمشقة بالغة وهو يبتسم ابتسامات مثيرة للشجن . ويبدو أن داء الربو يحصل بسبب الغبار وينتقل بصفة خاصة عبر الغبار الذي يكسو أجسام الخيل ، وشعور القطط ، وقد عز على الخبراء إيجاد علاج له ولو أنه قد خفت شدته بعد أن أخذ فيصل بالنمو .
لبق التصرف والإتقان
كان فيصل الثاني يتصرف تصرفاً حسناً جدا في كل الأعمال التي يمارسها ، والاجتماعات التي يحضرها باعتباره ملكاً ، ولو أنه مازال طفلاً ، ففي بعض الأحيان كان يتصرف بمنتهى الإتقان والكمال . فحين كان في طريقه إلى أوروبة وجهت إليه الدعوة من لدن السفير « اللورد كلرن « لتناول الشاي ، وقد صدرت الأوامر بتأليف حاشية خاصة تناسب فتى صغيرا ، وكان متمكناً من نفسه ، ويأكل بحذر واحتراس، وفي النهاية كان السفير ، وليس الملك ، هو الذي التهم القطائف !
يتبع لاحقاً
المصادر
_ كتاب ثلاثة ملوك، جيرالد دي غوري
_ أرشيف مركز المخطوطات والتراث والوثائق ـ الجابرية
الصفحة الرئيسية تراثنا
خدمة تلقي الاخبار المجاني هنا