الحلقة الأولى
الكتاب ..الجليس الذي لا ينافق ولا يمل ، ولا يعاتبك أذا جفوته ، ولا يفشي سرك
تراثنا – التحرير :
عند تصفح كتاب ( الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية *) لمؤلفه محمد بن علي بن طباطبا (1260 – 1309 هجرية) تكتنفه الرغبة في الاستزادة ، خاصة وانه يبين فضل العلم والعلماء على السلاطين والملوك ،وكيف كان هؤلاء العلماء تبصرة لهم ، وزينة لعقولهم ، وتنوير لمجالسهم ، ورفع لمقاماتهم .
فيما يكشف الكتاب ألاعيب الوزراء ورغبتهم في بقاء السلاطين في حالة من التغييب عن مجريات أمور الدولة ،بأشغالهم باللهو والمؤنس من حكايات القصاصين وغيره.
-
كره الوزراء قديماً أن يطَّلع الملوك على سِيَرة الأمم في التاريخ خوفاً من أن يتفطنوا إلى ألاعيبهم .
-
طلب وزير المُكتفي من نوابه احضار كتب الأشعار والحكايات بدلا من كتب سير التاريخ لإلهاء الأمير بها !
يقول المؤلف محمد بن علي بن طباطبا ” يرحمه الله ” : فإن أفضل ما نظر فيه خواص الملوك ، وسلكوا إليه أفضل السلوك ، بُعد نظرهم في أمر الأمة ، وقيامهم فيما استودعوه بالحجة ، هو النظر في العلوم ، والإقبال على الكتب التي صدرت من شرائف الفهوم .
فأما فضيلة العلم فظاهرة ظهور الشمس ، عرية من الشك واللبس ، فمما جاء من ذلك في التنزيل قوله تعالى : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ) الزمر (9) ، ومما جاء في الحديث صلوات الله عليه وسلامه على من نُسب إليه : “ إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم ” .
وأما فضيلة الكتب ، فقد قالوا أن الكتاب هو الجليس الذي لا ينافق ولا يَمَل ، ولا يُعاتبك إذا جفوته ، ولا يُفشي سرك ، وقال المهلب لبنيه: يا بني إذا وقفتم في الأسواق ، فلا تقفوا إلا على من يبيع السلاح أو يبيع الكتب .
بن خاقان والكتاب
وكان الفتح بن خاقان إذا كان جالساً في حضرة المتوكل ، و أراد أن يقوم إلى المتوضأ ، أخرج من ساق موزته كتاباً لطيفاً ، فلا يزال يطالعه في ممره وعوده ، فإذا وصل إلى الخليفة أعاده إلى ساق موزته .
كتبه أشغلته عن الخليفة
أرسل بعض الخلفاء في طلب بعض العلماء ليسامره ، فلما جاء الخادم إليه ، وجده جالساً وحواليه كتب ،وهو يطالع فيه :
فقال له : إن أمير المؤمنين يستدعيك .
قال : قل له عندي قوم من الحكماء أحادثهم ، فإذا فرغت منهم حضرت.
فلما عاد الخادم إلى الخليفة أخبره بذلك .
قال له : ويحك ! من هؤلاء الحكماء الذين كانوا عنده؟
قال: والله يا أمير المؤمنين ما كان عنده أحد !
قال : فأحضره الساعة كيف كان .
فلما حضر ذلك العالم ..
قال له الخليفة : من هؤلاء الحكماء الذين كانوا عندك ؟
قال : يا أمير المؤمنين :
لنا جلساء ما نمل حديثهم
أمينون مأمُونون غيباً ومشهدا
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى
ورأياً و تأدباً ومجداً وسؤدَدا
فإن قلت أموات فلم تعدُ أمرهم
وإن قلت أحياء فلست مفندا
فعلم الخليفة أنه يشير بذلك إلى الكتب ولم ينكر عليه تأخره .
العلم زينة الملوك
وقال الجاحظ : دخلت على محمد بن اسحق أمير بغداد ، في أيام ولايته وهو جالس في الديوان ،والناس مثولٌ بين يديه ، كأن على رؤوسهم الطير .
ثم دخلت إليه بعد مُدة وهو معزول ، وهو جالس في خزانة كتبه ، وحواليه الكتبُ والدفاترُ والمحابُر والمساطرُ ، فما رأيتُه أهيبَ منه في تلك الحال .
والعلم يزين الملوك أكثر مما يزين السوقة ، وإذا كان الملك عالماً صار العالمُ ملكاً ، وأصلحُ ما نظر فيه الملوك ما اشتمل على الآداب السلطانية والسير التاريخية المطوية على ظرائف الأخبار، وعجائب الآثار ، على أن الوزراء كانوا قديماً يكرهون أن الملوك يقفون على شيء من السير والتواريخ خوفاً أن يتفطن الملوك إلى أشياء لا يحب الوزراء ان يتفطن لها الملوك .
إشغلوا الأمير بالحكايات !
طلب المُكتفي من وزيره كتباً يلهو بها ، ويقطع بمطالعتها زمانه ، فتقدم الوزير إلى النواب بتحصيل ذلك ،وعرضه عليه قبل حمله إلى الخليفة ،فحصلوا شيئاً من كتب التاريخ ، وفيها شيء مما جرى في الأيام السالفة من وقائع الملوك ، وأخبار الوزراء ، ومعرفة التحيل في استخراج الأموال .
فلما رآها الوزير قال لنوابه : والله إنكم أشد الناس عداوة لي ، أنا قلت لكم حصلوا له كتباً يلهو بها ، ويشتغل بها وعن غيري ، فحصلتهم له ما يُعرفهُ مصارع الوزراء ، ويوُجده الطريق إلى استخراج المال ، ويعرفهُ خراب البلاد من عمارتها ، رُدوها وحصلوا له كتباً فيها حكايات ، تُلهيه وأشعار تُطربه .
يبتع لاحقا ..
طالع الحلقة الثانية :
كراهية الوزراء تولي سلاطين ذو فطنة في الأمور .
* مقتنيات مكتبة مركز المخطوطات والتراث والوثائق
تواصل مع تراثنا