الحلقة الثانية والأخيرة
سطور صادقة من الحياة يغفل عنها الكثيرون
تراثنا – حوار : خالد بوقدوم :
في الجزء الثاني من الحوار ، نستكمل ذكريات موسى مسلم التعمري التعمري ، الفلسطيني ذو الثمانين عاماً ، الذي قدم إلى الكويت عام 1965م ، للرزق بقصد البقاء سنوات عدة ، والعودة إلى بيت لحم مسقط رأسه في فلسطين، فطال به المقام حتى تزوج وخلف 10 من الذرية ، واستقر به المقام حتى يومنا .
وقدم لنا التعمري في الحلقة السابقة ، رؤيته للكويت خلال 60 عاماً بعين الوافد البسيط ، الذي عركته الحياة ، وعمل على الشاحنات وفي البقالات، واحتك بشيوخ الكويت في شبابهم ، والشخصيات الكويتية ، وكان شاهداً على شهامة أهل الكويت ومودتهم لأهل فلسطين في مواقف عدة ، ونكمل بقية الحوار .
التعمري :
-
فور سماع خبر احتلال الكويت قطعت سفري للضفة الغربية وعدت فوراً عازماً حمل السلاح فمنعني كبر السن .
-
فرغت إطارات شاحنة جاري لمنع جنود الاحتلال من الاستيلاء عليها ، فقال كبيرهم “: أحنا ما جينا الكويت إلا على مود نحرر فلسطين “!.
-
ملئت صهاريج المياه من المحطة ووزعتها مجاناً على الناس يومياً إلى أن انتهت أزمة انقطاع المياه في أيام التحرير .
-
خطبوا لي أهلي ، وأكملت ديني عن بُعد ، دون أن أرى ولو صورة للعروس ، وفي حفل الفرح لم أعرفها من بين المدعوات !!
-
رزقني الله عشرة من الذرية من زيجة طالت 47 عاماً قضيتها بالحلوة والمرة مع رفيقة دربي “يرحمها الله ” .
-
اشتكى عليّ ثلاثة من بني جنسيتي لصدمي سيارتهم تعمداً ،وفي المخفر عفى عني كفيلهم الكويتي صاحب السيارة .. وكفلني !!
-
العضيلة ختم إقامتي الأولى ، ونقلها النقيب عبدالله أسمير المطيري عليه 10 سنوات مجاناً وكذلك أنور النمش .
زواج فريد
بعد أن كون التعمري نفسه وبلغ من العمر 25 عاماً في عام 1965م ، قرر الزواج فخاطب أهله في فلسطين ليخطبوا له، ولم تكد تمضي بضعة أشهر إلا وقد أكمل موسى نصف دينه ولكن عن بعد، بطريقة لا تخلو من الغرابة والطرافة.
يكشفهما : “خطب لي والدي فتاة لا أعرفها من أسرة أخرى من دون أن أرى لها ولو صورة، وتم عقد القران وتحديد يوم العرس وأنا في الكويت وقبل موعد الزفاف بأيام سافرت الى فلسطين، وفي العرس اتجهت الى حيث تجلس العروس لأجلس بجوارها، ولأنها كانت ترتدي من الملابس ما ترتديه المدعوات وليس ثوب العرس الأبيض، وقفت محتاراً أسال الفتيات اللاتي أمامي: من فيكم العروس ؟! فأشاروا إليها فجلست بجوارها». ويضيف ضاحكا:» وأحمد الله أنها كانت عند حسن الظن ” .
عشرة من الذرية
مهر زوجته كان 370 ديناراً كويتياً في الوقت الذي كانت فيه ليرة الذهب بدينارين ونصف الدينار. ولم تكد تمضي بضعة أيام على زواجه حتى عاد إلى الكويت برفقة نصفه الآخر، التي رافقته بالحلوة والمرة طوال 47 عاما إلى أن فارقته إلى بارئها في عام 2012م بعد أن رزقه الله منها 10 من الأبناء.
أول رخصة قيادة
وفي عام 1968م ومع الاستقرار المالي والأسري اشترى موسى سيارة ألمانية مستعملة ماركة «أوبل» بوكس طراز 1967 بمبلغ 600 دينار، بعد أن استخرج رخصة القيادة عقب نجاحه في اختبار القيادة الرابع، بعد ثلاث محاولات مخفقة ويضيف:” استخرجت استمارة القيادة من المرقاب وكان الاختبار في الشرق، ودفعت مبلغ 30 ديناراً لمكتب تعليم قيادة مقره بالمرقاب، يشرف عليه مدرب قيادة مصري الجنسية يدعى عاطف، واستمرت مدة التدريب شهراً بصحراء المنصورية وكان معظم المتدربين فلسطينيين وبعض اليمنيين” .
صدم سيارات جيرانه !
يبدو أن ما تعانيه الكويت من أزمة مواقف السيارات قديم، حيث لم يكد يمضي على تسلم التعمري رخصة القيادة بضعة أشهر حتى دخل في عراك على المواقف مع جيران له من أهل بلده ويقول : “كان لثلاثة إخوة فلسطينيين سيارة يعملون عليها متخذين من أمام باب البقالة موقفاً لها، فكلمناهما أنا وأخي أن يوقفوها بعيداً عن البقالة كونها باب رزق لكنهم رفضوا، فما كان مني بعد أن رأيت عنادهم إلا أن ركبت وانيت أخي وكان ذا دعامية ضخمة، ودعمت سيارتهم فتعاركوا معي وقدموا بحقي شكوى للمخفر ” .
شهامة أهل الكويت
الغريب في القصة لم يأت بعد.. كاشفاً لنا التعمري عما جرى له في المخفر بالأسطر التالية : «استغرب الضابط من تصرفي الطائش وطلب مني كفيلاً كويتياً لإتمام الإجراءات بحقي، وبينما نحن بالانتظار أتى شخص كويتي من طرف الخصم وكان بالأربعينيات من عمره، واتضح أنه كفيلهم ويعملون عنده، وسأل الإخوة الثلاثة أمام الجميع : السيارة حق منو؟ فقالوا: هي ملكك، فقال لهم: العفو عند المقدرة.. أنا مسامح الرجل ـ يقصد التعمري – بكافة ما لحق السيارة من أضرار.
ثم سألني هل معك كفيل يكفلك فقلت لا، فقال للضابط أنا أكفله، وفوق هذا وذاك أمر الإخوة الثلاثة أن يوصلوني إلى البيت، وسط دهشة الجميع من موقفه النبيل” .
لو أعرف مكان قبره !
ردة الفعل غير المتوقعة التي صدرت من الرجل الكويتي، أنست موسى التعمري تقديم جزيل الشكر له، حتى إنه يبدي عظيم أسفه إلى الآن، كلما تذكر نبل ذلك الرجل الذي لا يعرف له اسماً، وإحساسا منه بفداحة تقصيره بحق الرجل ،يقسم التعمري ثلاثاً أن لو كان يعلم مكان قبره حيث يرجح وفاته لذهب وقبل قبره، فما كان مني إلا أن ذكرته بالدعاء له فهو أفضل.. حقا إنها قصة تستحق أن يتناقلها الناس.
إلى فرانكفورت
أبو محمود وبعد أن كانت نيته العمل في الكويت بضع سنوات ثم العودة إلى بلاده، استقر رأيه أخيراً على الإقامة في الكويت ، ولاسيما بعد أن تحسن وضعه كثيراً بالديرة، أضف إلى ذلك احتلال اليهود للضفة الغربية وقطاع غزة ، مما أسهم في تعقيد العودة فيما لو أراد ذلك، ولهذا عد موسى الكويت بلده ،فعمل بكل جهد ونشاط متنقلاً بين الأعمال الحرة حتى جاء عام 1975م فأخذ نشاطه منحنى آخر، تمثل في جلب الشاحنات من ألمانية لمكتب «سرور» واستمر في عمله إلى عام 1981م ..
رحلة الشاحنات الثلاثة
يقول عن رحلته الأولى:” سافرت إلى فرانكفورت على خطوط لوفتهانزا برفقة اثنين من السائقين وكان معنا 150 ألف مارك نقدي لشراء ثلاث شاحنات، وبعد قضاء ثلاثة أسابيع، كنا قد انتهينا من شراء ثلاث شاحنات قدناهم بأنفسنا إلى الكويت ، برحلة استمرت ثمانية أيام ، قطعنا خلالها 5200 كيلو، انطلاقاً من ألمانية فالنمسة ثم يوغسلافية وبلغارية وتركية والعراق فالكويت ، متقاضياً عن الرحلة الواحدة بخلاف التذكرة والإقامة 300 دينار، والتي غالباًً ما تحتاج إلى شهر لإتمامها”.
اشادة بسفارة الكويت في المانية
الجدير بالذكر أن السفارة الكويتية في ألمانية تدخلت أكثر من مرة إلى صف السواقين الفلسطينيين القادمين من الكويت، في حال تعرضهم للاحتيال من جانب بعض التجار الألمان.
خبر الغزو العراقي
الغزو العراقي للكويت في الثاني من (آب) أغسطس عام 1990 م ، مَثّل صدمة لكل من يعيش على أرضها ،من مواطنين ومقيمين ،وقد كان موسى التعمري واحداً منهم، وقع الخبر عليه وقع الصاعقة..
يعود التعمري بالذاكرة 30 عاماً ، ويصف لنا لحظة تلقيه الخبر: ” سافرت برفقة الأهل إلى الضفة الغربية يوم الأربعاء الأول من (آب) أغسطس، وفي اليوم التالي ذهبت لزيارة ابن خالي الفدائي أمين السليم ، المسجون في سجن عسقلان عند الساعة العاشرة صباحاً، فأخبرني – وهو السجين – بما حدث للكويت ، فانصدمت جداً وضاقت علي الأرض بما رحبت ، فقطعت زيارتي له ، وعدت فوراً إلى البيت، وحزمت أمتعتنا ورجعنا الى الكويت، وفي نيتي حمل السلاح، لكن لكبر سني لم أجد من يساعدني بالانضمام إلى المقاومة” .
ردة فعل أبومحمود نابعة من حبه الشديد للكويت ، وليس خوفاً على أملاك له فيها يخشى ضياعها، كيف لا وهو الذي عاش فيها أكثر مما عاش في فلسطين ، وهو ما تجلى في عودته السريعة إلى الكويت، حيث سافر الأربعاء الى الضفة وعلم بالغزو الخميس ، وكان السبت في الكويت.
لحظة الوصول
وأما عن لحظة دخوله الكويت فينقل لنا المشهد: ” ما إن وصلت الحدود الكويتية العراقية حتى رأيت كثيراً من المدنيين العراقيين من رجال ونساء متجهين إلى الكويت سيراً على الأقدام ، رغم طول المسافة ، ناهيك عن المركبات، وفي العبدلي هالني منظر لم آلفه من قبل، وهو سيارات وشاحنات كويتية مرفوعة على طابوق وقد سرقت إطاراتها” .
تحرير فلسطين بسرقة الكويت !
وأما عن أصعب المواقف التي مرت به في أثناء الغزو فيرويها حامدا الله على سلامته:” قبل التحرير بأربعة أيام جاءت مجموعة جنود بالليل ،لأخذ شاحنة جاري المسافر بدعوى المجهود الحربي، فما كان مني إلا أن ذهبت مسرعاً إلى المخفر وأخبرتهم بالموضوع، فأرسلوا لهم ضابطاً يمنعهم من أخذ الشاحنة، وخوفاً من عودتهم مجدداً، وقد عادوا بالفعل ، عمدت إلى تفريغ كل إطاراتها من الهواء، وعندما عادوا عند منتصف الليل ،ووجدوها على حال أخرى، استشاطوا غضباً وقال أحدهم مبرراً فعلهم ويبدو أنه كبيرهم وكان في قمة العصبية: « إحنا ما جينا الكويت إلا على مود نحرر فلسطين” .
أصعب لحظات المشهد لما سألوا شهاد الواقعة :من فعل هذا ب «شاحنتنا» ؟! متوعدينه بأشد العقاب، ولكن الله سلم فلم يخبرهم أحد وبعد التحرير باع التعمري الشاحنة وأرسل ثمنها إلى جاره بالأردن.
القطان والتعمري
ولأن (أبو محمود) رجلٌ شهمٌ يحب الكويت ، كان لا يتأخر عن مساعدة الكويتيين قدر المستطاع في أثناء الغزو ولاسيما صديقه وكفيله علي القطان إذ كان على تواصل معه ، حيث يقيم في منطقة الشامية ، ويلبي له حاجاته وحاجات أهله كافة طوال الغزو ، ما جعل القطان يثني عليه قائلاً: « الصديق عند الضيق».
واستمرت علاقة التعمري بالقطان بعد التحرير فكان دائم الزيارة له إلى أن توفاه الله.
توصيل احتياجات المقاومة
ما كان يقوم به موسى التعمري كان يصل أحيانا إلى مرحلة الخطر وهو ما تجلى في علاقته بعلي ناصر العبيد الذي تعرف على التعمري في أثناء الغزو وارتاح له العبيد كثيراً فاتخذه سائقاً ومرافقاً له، لتوصيل احتياجات المقاومة من مأكل ومشرب وأموال وغيرها.
التحرير وأزمة الماء
كان يوم التحرير يوماً فارقاً في حياة أبومحمود ، وهو يرى الكويت وقد عادت إلى أهلها وإلى محبيها فعمل بجد ونشاط منذ اليوم الأول، يقدم خدماته المجانية للمحتاجين والماء خاصة ويقول:” كان عندي بعض صهاريج المياه فكنت أملأها يومياً من المحطة مجاناً، وأوزعها أيضاً على الناس مجاناً وداومت على ذلك إلى أن انتهت مشكلة انقطاع المياه” .
صعوبة في ختم الإقامة
كان بإمكان موسى أن يستفيد كثيراً فيما لو باع الماء كما فعل غيره ،لكنه آثر ما عند الله على ما عند الناس، وهو موقف مشرف منه بالتحرير، كما كانت مواقفة مشرفة في الغزو ، ومع ذلك لاقى صعوبة بختم إقامته الأولى بعد التحرير، لكن صديقه الكويتي شامان العضيلة وقف إلى جانبه وساعده بتحويلها على كفالة صديقه عضو مجلس الأمة حينها محمد المهمل.
موقف مشرف
وكان قبلها العضيلة قد أرسل في أول أيام التحرير إلى بيت موسى التعمري وانيتاً محملاً بمختلف المواد التموينية يقوده ابنه بلباسه العسكري.
وبعد أن انتهت إقامة التعمري نقلها على صديق له آخر يدعى النقيب عبدالله اسمير عايد المطيري ولمدة عشرة سنوات مجاناً، ولما سافر المطيري إلى الأردن بقصد السياحة وكان أبو محمود حينها هناك أكرم وفادته، وكذلك فعل مع صديقه الآخر أنور النمش.
يبدأ يومه بصلاة الفجر
أما الآن ، ورغم مناهزة أبو محمود الثمانين من عمره ، فإنه ما يزال نشيطاً قادراً على العطاء ، يبدأ يومه بصلاة الفجر ويدير محلاً لبيع الخضار والفواكه ويعاونه بعض العمال.
انتهى
طالع الحلقة الأولى ( الكويت في ستين عاماً بعين فلسطيني تعمري (1)
الصور : ( DW ) ، ( الموقع ) ، ( الخليج أون لاين ) ( ذرى الكويت ) ( الجريدة )
تواصل مع مجلة تراثنا
ابو محمود
موسى مسلم سلامة العسكر
جدي و حبيبي حفظه الله ورعاه