شخصيات مبدعة رحلت عن عالمنا
رغم فقدان بصره أدار مدرسة وترأس تحرير مجلة وصحح طباعة مصاحف
تراثنا – كتب : د . محمد بن إبراهيم الشيباني *:
الأخ الأستاذ الشيخ عبدالعزيز أحمد المذن (بوسعود) رحمه الله ، عرفته كما عرفت اخوانه : الاخوة الذكور: عبدالله ،مساعد، بدر ، سالم ، غانم ، منصور، ثنيان ،عصام، وأخت واحدة.. وغيرهم أبناء اعمامهم وقرابتهم منذ زمن طول ،لم أر منه ومنهم ألا المودة والإلفة والمحبة والخير للناس كافة ، القريب منهم والبعيد .
-
حظي بو سعود بمحبة الأهالي،فنصبوه عليهم أماما وخطيباً لجامع العدساني عند غياب الأمام والخطيب المعتمد !
-
تعمّد أيام الاحتلال العراقي للكويت التحرش بالجنود العراقيين فكان يطالبهم عند اعتقاله بإيصاله للصف الأول في الجامع !
-
كان يذهب إلى المسجد ليرفع نداء ( الله أكبر ) خمس مرات في اليوم في وقت امتنع الناس عن الخروج خشية الأعتقال .
-
المذن : بدا لنا كأنه نائم ،ولم تظهر عليه آثار (الكورونا)، ومن البشارات أنه لم يمض بين وفاته ودفنه سوى أربع ساعات فقط .
-
د . المدني عميد كلية القرآن في لاهور : كثيرا ما رايناه يتلو القرآن باصابعه ليلا نهارا ..فتمنينا أن نكون مثله ..
بوسعود ..خريج جامعة الكويت ( كلية الآداب – قسم اللغة العربية ) ، وُلد في حي شرق ، فريج القضيبي في 25 من أغسطس عام 1946م ( 1366 هجرية ) ،وتوفي رحمه الله عن عمر يناهز 75 عاما في يوم الإربعاء 5 من شهر فبراير 2021 ( رجب 1442 هجرية ) .
كان الشيخ عبدالعزيز رجلاً ضريراً ، غير أن فقدان البصر لم يمنعه من مزاولة أنشطة عدة ، في حدود امكانياته ، حيث تولى إدارة مدرسة لتعليم فاقدي البصر ، وترأس تحرير المجلة الخاصة بهم ، ولم يتوقف نشاطه عند حدود فاقدي البصر ، بل توسع ليشمل المبصرين ايضا !
امام وخطيب متطوع
فقد تمتع – رحمة الله عليه – بمحبة واسعة في قلوب أهالي المنطقة، لروحه الطيبة وبشاشته ،وبالأخص من المصلين في جامع العدساني ، القريب من مسكنه ، فقد وقع اختيارهم عليه ليحل أماماً وخطيباً ، محل الأمام وخطيب الجامع ( الشيخ محمد – من مصر) ، عند غيابه لأسباب طارئة ، او بدواعي السفر ، فكان بو سعود يتولى أمامة المصلين ، ويعتلي منبر الخطابة خطيباً وواعظاً ، داعياً للخير ، ناهياً عن المنكر ، وذلك طيلة 25 عاماً حتي وفاته .
مداعبات
من الأسباب التي قربت الشيخ بو سعود للناس ، ميله للمداعبة وادخال البهجة إلى نفوس من حوله ، وكان الاخرون يشاركونه المداعبة بمثلها ، ومنها ما كان يجري من ملاطفة ، بينه وأمام مسجد العدساني الشيخ محمد ، حيث يقول الشيخ بلهجته المصرية الظريفة : ” تلاقيك يا شيخ بوسعود فرحان قوي ، عشان أنا مسافر ، وسايب الجمل بما حمل ! طبعا يا عم مين قدك يا شيح عبد العزيز .. أهو أنت بقيت مكاني من حيث لا تحتسب ! ولو دامت لغيرك ما اتصلت إليك .
فيرد عليه الشيخ بوسعود – يرحمه الله – الدعابة بمثلها ، أو أكبر منها طرافة وظرافة : ” أراك يا شيخ محمد زودتها حبتين ، وكأنك تريد أن تحيل لحظات وداعك إلى مشاهد نكد مأساوي ، تأسياً بالعادات الوطنية المصراوية أياها !!
مرح وتقوى
ويجيد الشيخ عبدالعزيز اللغة العربية قراءة وكتابة ، بطريقة الحروف البارزة (برايل) ، بحكم تخرجه من جامعة الكويت (كلية الآداب) ، ومن صفاته الجلية للآخرين ، مخافة الله وتقواه ، ومرحه الاجتماعي ، رغم عاهته في البصر ، فقد كان شديدالفطنة ، التي لا تخلو من قفشات مرحة .
ذكريات الاحتلال
ومعروف أن بوسعود من أهالي منطقة كيفان المرابطين في الكويت ، أيام الغزو العراقي الغاشم للبلاد، وقد تعرض كبقية سكان الكويت للمضايقات ، وكانت له مواقف ومحطات تستحق الأشارة إليها ، حيث تتجلى فيها شجاعته وجسارته ، ففي ذات يوم فوجيء بأن منافذ وقواطع الحي الذي يقطنه في ( كيفان ) قد طوقه جنود السلطات العراقية المحتلة ، من كل حدب وصوب ، وفوجيء أيضا بأن أحد نقاط السيطرة والتفتيش ، نُصبت أمام مدخل منزله تماما .
ولأن بوسعود فاقد البصر ، فقد كان يتحرش بجنود السيطرة العراقية ، في الذهاب والأياب، ويتعمد الاصطدام بهم بجرأة ، وعدم خشية منهم ، الأمر الذي يضطرهم إلى اقتياده مخفوراً .. حتى عتبة الساحة الخارجية للجامع فقط !!
الشيخ المشاكس
ومن جرأته وجسارته ، أنه كان يلح عليهم بضرورة إيصاله حتى مكانه في الصف الأمامي في الجامع ! لكنهم يرفضون طلبه ، ويتركونه حيث هو ، ربما لخشيتهم من دخول الجامع لنجاستهم ، على حد اعتقاد شيخنا المشاكس .
عاصفة الصحراء
وفي يومي الخميس والجمعة ، اللذين حدثت فيهما أكبر حملة اعتقال تعسفية للمواطنين ، اضطر الأهالي إلى لزوم بيوتهم ، لا سيما بعد أن بدأت العمليات الحربية البرية ( عاصفة الصحراء ) ، وقد اعتاد السكان الذين يقطنون في شارع واحد ، الاختباء في سرداب ( قبو ) أحدهم ، وكف أغلب الأهالي عن الخروج .
لكن الشيخ عبدالعزيز – يرحمه الله – لم يتوقف عن الذهاب إلى الجامع ، واطلاق نداء ” الله أكبر ” ، خمس مرات في الأربع والعشرين ساعة ، غير عابىء بهجمة الأعتقالات التعسفية الشرسة ، التي طالت جميع الأسر ، ولم توفر أحداً .
السين والجيم
ولطالما تعرض بوسعود إلى السين والجيم ، في اطار تحقيقات استخباراتية عراقية ، عن الخطيب الذى اعتلى المنبر أمس ، أو اليوم ، أو عن ذلك الذي قال كذا ومذا ..ألخ ، ولكن شيخنا يلعب معهم وبهم لعبة عمك أصمخ (1) فتسمعه يزأر بهم : كيف تريدون منى التعريف بأحد وأنا .. كما ترون ..ضرير ؟
وهنا ينفذ منهم بقدرة قادر ، لأنهم يمارسون الاعتقال التعسفي بعدل واضح .. بحيث يطال الجميع ، ولا يشفع لأحد غياب نظره أو كبر سنه أو مرضه !
ولعلنا لاحظنا ان بعض فاقدي النظر كانوا ضمن المعتقلين والأسرى ، وبهذا المنحى الاعتقالي الارهابي التعسفي كان يمكن ان يلحق بشيخنا ما لحقهم .. ولكن الله سلم .
إقرأ في تراثنا
:
*محمود خليفة الجاسم سيرة دعوته وجهاده (1)
شهادات اخوة ومحبين
ويصف سالم أحمد المذن ، شقيق الفقيد الشيخ ابوسعود ، طبيعة العلاقة الأسرية معه قائلا : إنها مشوار حياة ، كان هو المعلم الصامت ، فهو في نظري رجل مبشر بالجنة ، وهو في الدنيا ، وفقاً لبشارة الرسول عليه الصلاة والسلام لمن فقد عيناه : ( إن الله عز وجل قال : إذا إبتليت عبدي بحبيبتيه عوضه منهما الجنة) البخاري ، ولم نسمع منه يوماً تذمر أو شكوى لفقدان بصره ، بل عوضه الله خيرا منها ، فقد كان ذو بصيرة ثاقبة، ونسأل الله له الرحمة ، فقد كان لا يدع فرصة للتثقيف في مجلس او لقاء ، إلا استغله في نشر علم لغوي أو شرعي .
مصحف المكفوفين
واستذكر المذن دور الشيخ بوسعود في طباعة مصحف المكفوفين بالقول : ، كان لابوسعود يد ومشاركة ضمن فريق المصححين لطباعة قرآن المكفوفنين ، الذي طُبع على نفقة احدى المحسنات ، ونشرته وزارة الأوفاف في المساجد ، ونسأل أن يكون في ميزان حسناته .
ويقول : منذ صغرنا كنا نجلس معه في المجلس ، نقرأ عليه الكتب والقرآن ، فيصحح لنا ما نقرأه عليه ، حتى يستقيم اللسان باللغة العربية ، أضف إلى ذلك ، كان له كثير من المواقف التي لها أطيب الأثر ، لإصراره وألحاحه بأداء وأتمام الفرائض والسنن على الوجه الأكمل ، فكان معلما ومدرباً ، لا يترك فرصة نشاط أو فاعلية ، ينظمها شباب منطقة كيفان لأداء مناسك العمرة أو غيرها، إلا كان سباقاً إليها .
الميت النائم
وعن وفاته وظروفها يقول اخوه سالم المذن : حتى في مماته بدا لنا كأنه نائم ، ولم يظهر عليه آثار التعب من المرض الذي أصابه (جانحة كورونا)، ومن علامات البشارة ، وفضل الله عليه ، أنه لم يمض بين وفاته ودفنه بعد صلاة الظهر سوى أربع ساعات فقط . (2)
تمنيت أن أكون مثله
وفى نفس السياق يدلي الشيخ القاريء أ . د حمزة مدني عميد كلية القرآن في جامعة لاهور الإسلامية العالمية في باكستان بشهادته فيقول معزياً ذويه : بلغنا وفاة شيخنا الحبيب عبدالعزيز المذن _ يرحمه الله – فقد كان من أتقى الناس في نظري ، فقد كنت أصلي بالناس في الكويت على مدي عشرين سنة ، في العشرة الأواخر من كل رمضان سنوياً، فالتقى بالشيخ في المسجد ، وكانت لي عنده معزة كبيرة .
ويمضي قائلا : كثيراً ما نرى الشيخ الفاضل ، هو يتلو القرآن باصابعه ( طريقة برايل) ، ونحن إذ نراه على هذه الحالة على الدوام ، نتمنى من الله أن نكون مثله ، ممن يتلون القرآن آناء الليل والنهار .
واختتم د . المدني شهادته بالدعاء للفقيد بوسعود بأن يرفع الله درجاته ، وأن يجعل القرآن شفيعاً ورفيقاً له في قبره ،وأن يوسع عليه مدخله ، ويغفر له ذنبه ، ويرحمه ويكرم نزله ومدخله .. وإنا لله وإنا إليه راجعون
.
وفي الختام
رحم الله أخينا الأستاذ الشيخ عبدالعزيز (بوسعود) ورحم الله اخانا الكبير الكاتب الإعلامي سليمان الفهد (بونواف) جاره في المنطقة والحي ،ورفيق دربه وشريكه في حب الدعابة ومآسي الغزو العراقي .. واسكنهما فسيح جناته .
*رئيس مركز المخطوطات والتراث والوثائق ومجلة تراثنا
هامش :
1- اطرش
2- روى البخاري في صحيحه : “قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إذَا وُضِعَتِ الجِنَازَةُ، فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ علَى أعْنَاقِهِمْ، فإنْ كَانَتْ صَالِحَةً قالَتْ: قَدِّمُونِي، قَدِّمُونِي، وإنْ كَانَتْ غيرَ صَالِحَةٍ قالَتْ: يا ويْلَهَا، أيْنَ يَذْهَبُونَ بهَا؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شيءٍ إلَّا الإنْسَانَ، ولو سَمِعَهَا الإنْسَانُ لَصَعِقَ.