انتقاءات تراثنا من الموروث العربي الإسلامي
أحمد عبد اللطيف يرصد قتل الإسبان لأنفسهم في “حصن التراب”
تراثنا – التحرير :
من بين الروايات التي تعتمد أحداثها على سرد الأحداث ، بالعودة إلى وقائع مدونة وموثقة ، تُوظف ضمن سياق تراثي أدبي ، تأتي رواية ( حصن التراب : حكاية عائلة موريسكية ) للراوئي والمترجم المصري أحمد عبداللطيف لتنقل لنا أحداث مأساوية من بلاد الأندلس .
تنقل الرواية التي استعرض قرائتها الكاتب عبدالكريم الحجراوي على موقع( INDEPENDENT عربية ) جوانب من مأساة اسرة عبدالله بن محمد دي مولينا المورسكية ، وتمثل نموذج المورسكيين الذين هجروا من ديارهم ، غير ان ما يهمنا هنا هو الأسلوب الذي لجأت إليه تلك العائلة ، في حفظ نقافتها عبر اجيالها المتعاقبة ، بتدوينها في مخطوطات ، يتناوب على استكمالها كل جيل ، فتتوالى بين الأجيال حتى تصل إلى الاحفاد .
-
استمرت المخطوطات تتناقل من جيل إلى آخر ، ليضيف إليها حكايته وينقلها إلى من يأتي بعده لتكشف ما تعرضت له الأسرة من تنكيل .
-
المورسكيون المتنصرون تعرضوا للتنكيل من القساوسة في الأندلس باعتبارهم عرب فيما اعتبرهم مسلموا المغرب نصارى فنبذوهم !
ونقلا عن قراءة في احداث الرواية ، يقول الكاتب عبدالكريم الحجراوي : تكثر الروايات العربية التي تتناول تاريخ العرب في الأندلس، ربما إلى حد يجعلها باباً مستقلاً في تاريخ الإبداع الروائي العربي، بل هو حاضر أيضاً في الشعر والمسرح، بوصف الأندلس هي الفردوس المفقود. ومن أشهر المعالجات لتلك الحقبة من تاريخ العرب ما قامت به رضوى عاشور في “ثلاثية غرناطة” وواسيني الأعرج في “البيت الأندلسي” والمغربي حسن أوريد في “الموريسكي”، والقائمة تطول، ومنها رواية “حصن التراب: حكاية عائلة موريسكية” (دار العين) للروائي والمترجم المصري أحمد عبداللطيف، وتدور أحداثها بعد سقوط الأندلس ومأساة الموريسكيين فيها، الذين هُجروا من ديارهم وأجبروا على تغيير معتقداتهم.
بدء التدوين
ويعتمد أحمد عبداللطيف على حيلة المخطوطات التي يسلمها جيل إلى جيل من أسرة “عبدالله بن محمد دي مولينا”، الذي عاش في مدينة كوينكا. ويبدأها “محمد بن عبدالله” عام 1492م بقوله، “أكتب هذه الأوراق بعد سقوط غرناطة بعدة أشهر. أجد نفسي مضطراً اضطرار الحر أن أدون ما استطعت. لا أطمع سوى في أن يعرف أحفادي أن هذه أرضنا، فيها ولدنا وفيها نموت” صـ 56. وتستمر هذه المخطوطات من جيل إلى آخر فيسلمها الأب إلى أكبر أبنائه سواء أكان ذكراً أو أنثى، ليضيف إليها حكايته وينقلها إلى من يأتي بعده حتى تصل إلى السارد ابن إبراهيم بن ميغيل دي مولينا في القرن السابع عشر في مدينة تطوان، فيطلعه والده قبل وفاته بأربعين يوماً على السر الذي خبأه عنه، طالباً منه أن يعيد نسخ مخطوطات أجداده، وأن يضيف إليها تلك المخطوطات التي تكشف ما تعرضت له أسرته من تنكيل وتهجير.
شجرة الحياة
تشير كتب التراث والحكايات الشعبية أن هناك شجرة في السماء تحمل كل ورقة من أوراقها اسم بَشَري، وما إن تسقط ورقة إنسان فيعني هذا أنه سيموت. وتختلف المدة، فهناك روايات تجعلها عاماً من بعد سقوط الورقة، وأخرى بعد 40 يوماً فقط من سقوطها.
ومن خلال هذه الأسطورة يبدأ السارد الرواية قائلاً، “رأى أبي أوراقاً تتساقط من أغصان شجرة، رأى أنه اقترب من ورقة واحدة وقرأها، كانت الورقة شديدة الصُفرة، كانت بحجم يده. كانت خريفية جداً. رأى في المنام، أن اسمه محفور بين نسيجها. أدرك أبي العلامة. وفي الصباح بصوت قادم من مكان آخر، أخبرني أن ورقته سقطت من شجرة الحياة. أخبرني كأن الأمر يخص شخصاً آخر. أخبرني بأن أربعين يوماً هي ما تبقى له في الحياة” صـ 11.
من المجهول إلى المعلوم
وبهذه الرؤية يحدث ما أشار إليه أرسطو في كتابه “فن الشعر” بخصوص ما يعرف بـ “التحول والتعرف”، بمعنى أن البطل يتحول من الشقاء إلى السعادة في الكوميديا، والعكس في التراجيديا. كما ينتقل عموماً من الجهل إلى العلم، وهي من سمات الحبكات جيدة الصنع لديه. وهنا السارد يحدث عليه التحول فينتقل من حال إلى حال، بعد أن يطلعه والده على هويته الحقيقية المدموغة على سُرة بطنه، وعبر المخطوطات يتعرف على تاريخه فيوغل في البحث عن ذاته. الأب يُرِي ابنه المخطوطات ويطلب منه الحفاظ عليها ونسخها ومحاولة العثور على المفقود منها وأن يورثها لعقبه، كما فعل والده معه من قبل… “لم أكن أعرف إن كانت السحَّارة تضم أوراقاً عن أمي، أم أنها تخص الأجداد وحدهم. غير أن ما كان يشغلني على الأقل في الساعات الأولى من الخبر هو خوفي من أن أعرف ما لا يسرُني. خوفي من أن أفتح بيدي صندوق باندورا فلا أربح إلا القلق والمخاوف” صـ 19. فنحن أمام رواية ترتكز حبكتها على المعرفة والانتقال مع البطل عبر المخطوطات من المجهول إلى المعلوم.
الهوية الثالثة
تنظر أحداث الرواية إلى أن ما جرى للأندلسيين من مجازر لم يكن بين مسلمين ومسحيين أو بين عرب وإسبان، وإنما بين إسبان وإسبان. فملوكهم جعلوا الدين أداة لتحققيق أطماعهم السياسية، وما يثبت ذلك هو استمرار محاكم التفتيش لأكثر من مئة عام وتهجير كل من لهم أصول مسلمة. ومن ذلك الحوار الذي يدور بين قس وأحد أجداد السارد خوان دي مولينا في عام 1609، “ها أنت تقول يا سيدي القس بعد أكثر من مئة عام. كيف يعقل أن نبقى بعد مئة عام من المسيحية مسلمين. لقد تربينا وكبرنا وتزوجنا في الكنائس ولا نعرف اللغة العربية. ما يحدث الآن أن الإسبان يطردون الإسبان. الإسبان الآن لا يطردون العرب. أنت تعلم جيداً أن العرب كانوا الأجيال الأولى. أما بعد كل هذه السنوات والقرون فقد صرنا إسباناً، منا مسيحيون ومنا مَن كانوا مسلمين. اللغة التي نتحدث هي القشتالية. الملابس التي نلبسها، العادات التي اكتسبناها، التقاليد التي نتبعها، كلها ابنة هذه الأرض” صـ 138.
هؤلاء الذين تم تهجيرهم واستقروا في تطوان استقبلهم أهل الأندلس القدماء الذين هجروها منذ سقوطها، بوصفهم مسيحيين فتعرضوا مجدداً للاضطهاد والنبذ. لقد طُردوا من إسبانيا لأنهم مسلمون عرب، وفي تطوان عانوا لأنهم مسيحيون إسبان.
وظل هؤلاء الإسبان المهجرون حريصين على حلم العودة إلى بلادهم مرة أخرى، إذ كانوا يحتفظون بمفاتيح بيوتهم وخرائطها، كما حافظو على لغتهم. وهو الأمر الذي أدهش طارديهم حين احتلوا تطوان في القرن التاسع عشر، إذ وجدوا أهلها يتحدثون الإسبانية. ظنوا في البدء أن الأهالي يتملقونهم ببعض الكلمات الإسبانية تقرباً إليهم، إلى أن أدركوا في النهاية أن الإسبانية هي لغتهم الأم، وأن هؤلاء هم أحفاد الموريسكيين.
الرواية تحرص على أن هناك هوية ثالثة انصهرت وخُلِقَت عبر ثمانية قرون عاشها العرب في الأندلس، فلن يكونوا عرباً بنقاء، ولم يكونوا إسباناً بنقاء، وإنما كانوا أندلسيين وانتماؤهم الوحيد كان للوطن الذي نشأوا فيه ولم يعرفوا غيره.
تحرص الرواية على تبرئة الدين المسيحي من المجازر التي ارتكِبت بحق المسلمين، فالدين كان الأداة التي لعبت بها سياسية الملوك من أجل تنفيذ مآربهم، وكانت وسيلة تجييش للفقراء ضد الفقراء من أبناء الوطن الواحد، بينما الدين نفسه بريء من كل هذه الدماء.
ومن أجل إثبات هذه الهوية الثالثة اتجهت الرواية في بعض جوانبها إلى المقالية والمباشرة من أجل شرح وجهة نظر السارد، ويضيف إلى الرواية أيضاً البعد التوثيقي عبر ما ينسجه في روايته من أوراق محاكم التفتيش التي جرت.
التجريب السردي
لا يغيب عن رواية “حضن التراب” عنصر التجريب الذي يكشف عنه الكاتب منذ العتبات الأولى لنصه بقوله، “قبل القراءة، تحتوي الرواية على إشارات للينكات موسيقية وأخرى لأفلام وثائقية لا يمكن قراءة الرواية واستحضار حالتها دون اللجوء إليها. إنها كذلك جزء أصيل في اللعبة السردية”، إلا أن الانتقال من المكتوب إلى المرئي والمسموع يحدث حالة من الارتباك، بخاصة أن كل وسيط له جمالياته التي تختلف عن الآخر، كما أن الرواية في الأساس هي فن سردي يعتمد على الكلمة المقروءة، فضلاً عن أن هناك عوامل كثيرة قد لا تتيح للقارئ الاتصال بالإنترنت، أو إلى المواد المذكورة ومنها ما تنبه إليه الكاتب وأشار إليه في آخر صفحات روايته، “يمكنكم استبدال اللينكات الموجودة في متن الرواية في حالة مسحها من اليوتيوب، بلينكات أخرى حول الموضوعات ذاتها، سواء موسيقى صوفية أو أفلام وثائقية عن الموريسكيين”. وكان يمكن للمؤلف أن يتغلب على حالة السيولة الموجودة على شبكة المعلومات الدولية إنْ لزم الأمر، بإرفاق إسطوانة مدمجة مع الرواية تحتوي المواد التي يريد للمتلقي أن يشاهدها، لكن بوصفها عملاً منفصلاً يهيئ القارئ لعوالم “حصن التراب”، ويجعلهما يشتركان على خلفية واحدة للأحداث.