الحلقة (8)
مُنتقى من (تدوين الحديث النبوي في أربعة عشر قرناً )
تراثنا – التحرير :
تدوين الحديث النبوي ..تواصل تراثنا في الحلقة (الثامنة) نشر فصول من كتاب ” تدوين الحديث النبوي في اربعة عشر قرناً ” للدكتور محمد بن إبراهيم الشيباني (*) كاشفة جهود العلماء في الذب عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم من الضياع وتنقيتها من الاكاذيب والموضوعات ( الحلقات كاملة ) .
-
تشدد الصحابة مع أنفسهم في حفظ الحديث وخشى أحدهم ألا يكون قد سمع الحديث على وجهه فيخطئ وإن كان غير متعمدا .
-
علي بن ابي طالب : إذا حدثتكم عن رسول الله ؛ فلأن أخِرَّ من السماء أحبُّ إليَّ من أن أقول عليه ما لم يقل .
-
كان الصحابة يستحلفون راوي الحديث لهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مبالين بمنزلة ذلك الراوي في الإسلام ومنزلته من رسول الله .
-
البراء بن عازب: “ليس كلنا كان يسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم،كانت لنا صنيعة وأشغال، ولكن الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ ، فيحدث الشاهد الغائب” .
-
واضعوا الحديث : دخلوا في الإسلام وهم كارهون له ليتمكنوا من الكيد له وللمسلمين، ولينتقموا لقومياتهم ودياناتهم التي قضى عليها الإسلام .
-
بعد أن وقعت الفتنة.. لم يقبلوا الأحاديث بمجرد روايتها حتى يسألوا عن أسانيدها، ويفحصوا رجالها رجلاً رجلاً .
وتناولت تراثنا في الحلقة السابقة جانباً من حرص الخلفاء الراشدين والصحابة وتخوفهم الشديد من الدس والوضع على احاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكانوا من المقلين في التحديث عنه والممسكين، وردوا ما وقع فيه الشك، أو لم يوافق كتاب الله وخالفه.. وكانت لجهود الصحابة الفضل الكبير- بعد الله – في تدوين الحديث النبوي وحفظه من عدة جوانب .
اتخذت حيطتهم هذه وجهين
أولهما: أنهم – رضوان الله عليهم – كانوا يتشددون مع أنفسهم في حفظ الحديث، وفي أدائه؛ لأن كل واحد منهم يخشى ألا يكون قد سمع الحديث على وجهه، أو لم يحفظه كما ينبغي فيخطئ في أدائه، ويكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان غير متعمد ذلك، فقللوا من روايتهم عنه .
يقول عثمان بن عفان : «ما يمنعني أن أحدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا أكون أوعى أصحابه عنه، ولكن أشهد لسمعته يقول: «من قال علي ما لم أقل، فليتبوأ مقعده من النار».
ويقول علي بن أبي طالب، مبيناً مقدار التبعية التي كانوا يلزمون بها أنفسهم في أداء الحديث: “إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلأن أخِرَّمن السماء أحبُّ إليَّ من أن أقول عليه ما لم يقل”.
تشددهم مع الآخرين
وثانيهما: أنهم تشددوا مع الآخرين الذين يتلقون عنهم حديث رسول الله : ويوضح هذا الوجه قول البراء بن عازب : «ما كل الحديث سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يحدثنا أصحابنا، وكنا مشتغلين في رعاية الإبل،وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يطلبون ما يفوتهم من سماعه من رسول الله فيسمعونه من أقرانهم، وممن هو أحفظ منهم، وكانوا يتشددون على من يسمعون منه ” .
ومن مظاهر هذا التشدد مع الآخرين، أنهم كانوا يتحلفون راوي الحديث لهم عن رسول الله ، غير مبالين بمنزلة ذلك الراوي في الإسلام، ومنزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد روى علي بن أبي طالب حديثاً عن رسول الله ؛ فقام إليه عبيدة السلماني، فقال: «يا أمير المؤمنين آلله الذي لا إله إلا هو، لسمعت هذا الحديث من رسول الله ؟ فقال: «إي والله الذي لا إله إلا هو» حتى استحلفه ثلاثاً، وهو يحلف له.
بدء ظهور الاسناد
ولقد نفى الصحابة عن بعضهم البعض الكذب، يقول البراء بن عازب : “ليس كلنا كان يسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانت لنا صنيعة وأشغال، ولكن الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ ، فيحدث الشاهد الغائب” .
ومن هنا نشأت بذور الإسناد والحرص على بيان سلسلة من نقلوا الحديث عن رسول الله .
يقول الإمام النووي، في شرح مسلم: ” وقد جاءت جملة من الأحاديث فيها أربعة صحابيون يروي بعضهم عن بعض، أو أربعة تابعيون يروي بعضهم عن بعض” .
هذا الاهتمام البالغ بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والحيطة في تحملها، وفي أدائها، يجعلنا نطمئن إلى أن سنته قد أداها الصحابة نقية خالية من الخطأ والتحريف، لم تشبها أدنى شائبة.
أكثر الصحابة رواية للحديث
ومن جهود العلماء في تدوين الحديث النبوي : قد جمع بقي مخلد، القرطبي (ت273هـ) في مسنده مرويات الصحابة، وذكر عدد مسانيدهم، وقد قال فيه ابن حزم: «مسند بقي» روى فيه عن ألف وثلاث مئة صاحب ونيف، ورتب حديث كل صاحب على أبواب الفقه؛ فهو مسند ومصنف، وما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله، مع ثقته وضبطه، وإتقانه واحتفاله في الحديث. انظر «نفح الطيب» 1/581، 2/131، وهذا الكتاب لم نسمع بوجوده في مكتبة من مكاتب الإسلام.
وقد اعتمد على هذا الكتاب في – عدد الأحاديث – ابن الجوزي، في كتابه «تلقيح فهوم أهل الأثر» المكثرون منهم رواية، الذين زاد حديثهم على ألف، وهم سبعة:
– أبو هريرة (ت59هـ) عدد أحاديثه (5374) .
– عائشة أم المؤمنين (ت57هـ) عدد أحاديثها (2210) .
– أنس بن مالك (ت93هـ) عدد أحاديثه (2286) .
– عبدالله بن عباس (ت68هـ) عدد أحاديثه (1696) .
– عبدالله بن عمر (ت 73هـ) عدد أحاديثه (2630) .
– جابر بن عبدالله (ت78هـ) عدد أحاديثه (1540) .
– أبو سعيد الخدري (ت74هـ) عدد أحاديثه (1170) .
وقد أدرج ابن كثير فيهم ابن مسعود، وعبدالله بن عمرو بن العاص، ولكن عدد روايات ابن مسعود (848) وعدد أحاديث عبدالله (700) .
الرواية في عهد التابعين
كانت حال الرواية في عصر الخلفاء الراشدين كما رأينا، فقد كان الصحابة كلهم يتثبتون من الخبر الذي يبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما كانوا يقبلونه إلا إذا تبين لهم صحته، ولكنهم بالنسبة للتحديث – أي تحديثهم بما يعلمون من سنة رسول الله – كانوا متفاوتين، فمنهم المقلّ، ومنهم المكثر، ومنهم من هم بين هؤلاء وهؤلاء.
ولقد تأثر التابعون بالصحابة وقلدوهم، فالصحابة كانوا قدوة التابعين وأساتذتهم. أخذ التابعون القرآن والسنة عن الصحابة، تعلموا منهم العلم والعمل؛ لذلك كان من التابعين مثل ما كان من الصحابة، فكان من التابعين من اقتنعوا بخطة المقلين واتبعوهم، ومنهم من اقتنع بخطة المكثرين واتبعوهم.
غير أنه في هذا العصر انتشرت وكثرت الأحاديث الموضوعة، تلك الظاهرة التي بدأت في آخر عهد الخلفاء الراشدين، في آخر عهد الخليفة علي بن أبي طالب ، بعد الخُلْف والحرب اللذين نشبا بينه وبين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما وأصبح المسلمون منقسمين، فريق يناصر علي بن أبي طالب، وهم من أهل الحجاز والعراق، وفريق يناصر معاوية وهم من أهل الشام، وعدد من الصحابة ممن نزلوا الشام، فبدأ بعض أنصار كل فريق في اختلاق أحاديث ينسبونها كذباً إلى رسول الله يؤيدون بها فريقهم.
ولقد عصم الله الصحابة – ولله الحمد – من الكذب على رسول الله ، بل كذلك كبار التابعين.
احوال رواة واضعوا الحديث
بدراسة أحوال رواة هذه الأحاديث الموضوعة، تبين: أنهم، إما أنهم ممن دخلوا في الإسلام وهم كارهون له ليتمكنوا من الكيد له وللمسلمين، ولينتقموا لقومياتهم ودياناتهم التي قضى عليها الإسلام، وإما أنهم من ضعاف الإيمان، حديثي العهد في الإسلام، قليلي العلم به؛ مما سهل على الفريق الأول التأثير فيهم، وإضلالهم واستخدامهم في تنفيذ مآربهم ومخططاتهم التي تهدف لإفساد تعاليم الإسلام والكيد للمسلمين.
خلاصة حال الرواية في ذلك العصر
ويتلخص حال الرواية في هذا العصر في المظاهر الأربعة التالية:
– ظهور المتحفظين في الرواية المقلين منها الموجهين معظم جهودهم إلى القرآن الكريم.
– ظهور المكثرين من الرواية بعد تثبتهم منها، حرصاً منهم على حفظ السنة ونشرها وخوفاً من ضياعها.
– ظهور الأحاديث الموضوعة المكذوبة على رسول الله بكثرة.
– بروز عدد من جهابذة العلماء الحفّاظ للسنة، الذين شمروا السواعد للذود عنها، وتمييزها من أخبار الكذابين الوضّاعين.
الرواية بعد الفتنة
ولقد كان وضع الحديث على النحو المذكور حافزاً لهمم علماء الصحابة والتابعين الذين وقفوا في وجوه أرباب النِحَل المختلفة؛ وعملوا على إزالة أدران الوضاعين، والقضاء على أباطيل الكذابين، فمن يوم أن وقعت الفتنة؛ لم يقبلوا الأحاديث بمجرد روايتها حتى يسألوا عن أسانيدها، ويفحصوا رجالها رجلاً رجلاً وكذلك أخذ الرواة وحملة الحديث من التابعين يسألون الصحابة ليميزوا لهم الطيب من الخبيث، فلم يكونوا كحاطب ليل، يجمع إلى الحطب الحيات والثعابين، بـل كـانـوا يتحــرجون من حمل ما لا يعرفون له أصلا عن رسول الله ، وكذلك ناهضوا الواضعين وكشفوا حقيقة أمرهم، وبذلوا جهوداً جبارة في جمع الأحاديث لروايتها، وتعلمها وتعليمها، والرحلة في طلبها.
تتبع حال الرواة
وإن من يتتبع تراجم المحدثين من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ومن جاء بعدهم إلى أن دونت السنة في بطون الكتب، بل وبعد تدوينها أيضاً يجد أن المؤرخين لحياتهم يقولون في الرجل منهم، مثلا: هو فلان بن فلان المكي، ثم المدني، ثم الكوفي، ثم البصري، ثم الشامي، ثم المصري، إيذاناً منهم بأن هذا الراوي كان رحالة في طلب الحديث والعلم.
اتجاه التابعين في الرواية
وهكذا نجد أن التابعين قد تأثروا بالصحابة، فمنهم من تأثر بالاتجاه الأول، وهو اتجاه المتورعين عن تدوين السنة، وكان دافعهم مخافة اختلاطها بالقرآن، وسمي باتجاه المقلِّين. والاتجاه الثاني: الذين يجيزون التدوين، ويجدون في سماع السنة غضة من أفواه أصحاب رسول الله ، أمثال: بشير بن نهيك، وسعيد بن جبير .
(*) : رئيس مركز المخطوطات والتراث والوثائق ورئيس مجلة تراثنا .
يتبع لاحقا..