تحقيق: د. محمد بن إبراهيم الشيباني
ظفار بلاد اللبان والمر وجبالها في سنة (1427هـ/2006م ) – (وصف للرحالة الإنكليزي جيمس ثيودور بنت (ت 1315هـ/ 1897م) …” الجزء الثاني” .
كنت قد حققت الجزء الأول من رحلة الرحالة الإنكليزي جيمس بنت (ونشرته في مركزنا قسم وثائق الخليج والجزيرة العربية -15- «88»)، حيث وجدت تلخيصاً قديماً نادراً مترجماً لرحلته إلى حضرموت وأهلها وذلك في مجلة المقتطف في مجلدها الصادر عام (1313هـ/ 1895م) وما كنت أعلم أن للموضوع تتمة يتكلم فيها على بقية ديار اليمن، وهي ظفار وجبالها في المجلد التاسع عشر الصادر عام (1313هـ/1895م) أي في العام نفسه، ولكن كان الموضوع في آخر عدد من المجلد نفسه وهو العدد الثاني عشر في الصفحات من 906حتى 914، فقلت لابد من إتمامه وإلحاقه بالجزء الأول من الرحلة كي تعم الفائدة باكتمال الموضوع .
الرحلة في الأصل نشرت بالإنكليزية ونشرت على جزأين كما ذكرت من دون ذكر للمترجم ! وهكذا كان دأب كتّاب المجلات القديمة، ومنها المقتطف، لا يذكرون أسماءهم، وهذا الأمر يحتاج إلى كلام طويل ليس هنا مقامه .
المترجم بعد نشره الجزء الأول من ترجمته بشهرين نشر الجزء الثاني من ترجمته الجزء الثاني كما ذكر ذلك في مقدمته المختزلة هنا .
سيجد القارئ الكريم كثيراً من الحواشي في هذه الرسالة، بل وبتطويل من قبل المترجم ، وقد ميزت تعليقاتي عنه بأن رمزت بشين بين قوسين .
لقد ترجمت للرحالة (بنت) ومؤلفاته ووفاته في الجزء الأول من هذه الرحلة، وزينت هذه الرسالة، كما سابقتها، بالصور والخرائط التي رأيت أنها لازمة في مثل هذه الأحوال، وشوق القراء للصور والخرائط والوثائق التي تعبر عن معان كثيرة ، وقد أحدثت لموضوعات الرحلة أبواباً مثل الجزء الأول حتى يستفاد منها بدل السرد الطويل غير المشوق للقراءة .
أسأل الله تعالى أن أكون في هذه الرسالة الصغيرة المختصرة للرحلة إلى بلاد اللبان والمر (ظفار وجبالها) – وقد رجعت إلى الوراء – قد وفيت هذا البلد السعيد حقه من محج للرحالة والمستشرقين والساسة والغزاة والجواسيس وذلك للجمال والسحر وصنوف عادات المجتمعات القبلية ومحط الحضارات القديمة وما عليه اليوم من تمزق وحرب وغزو وأمراض فككت هذا البلد السعيد وأحزنته وزادت عذاباته وآلامه.
نسأل الله سبحانه أن يقوم منها بأفضل حال عاجلاً لا آجلاً . اللهم آمين . والله المستعان .
مقدمة المترجم
بلغنا أن ما كتبناهُ في الجزء الأخير من المقتطف عن «حضرموت وأهلها» وقع موقعاً حسناً لدى قراء المقتطف وودوا أن نوافيهم بكل ما نقف عليه من هذا القبيل إذ قد انقطعت أخبار تلك البلاد عن قراء العربية منذ مئات من السنين والمعروف من تاريخها القديم سقيم لا يعوّل عليه وهي منَّا على قاب قوسين فلا نُعذر إذا فاتنا علم ما يعلمهُ عنها أبناء أوربة وأميركة . فطالعنا ما كتبهُ الرحالة (بنت) منذ شهرين عن تلك البلاد ولخصنا منهُ ما يلي وأضفنا إليه من الحواشي ما تتم به الفائدة مما وقفنا عليه في الكتب العربية .
قال :
إن البلاد التي اشتهرت باللبان، أي البخور، في التاريخ ضيقة النطاق ولم يزل اللبان يرد منها حتى الآن واسمها ظفار(1) ويرسل من لبانها تسعة آلاف قنطار كل سنة إلى بمباي ببلاد الهند، يأتي به عرب الغارة إلى البحر، ويُنقل من هناك في سفن شراعية إلى بلاد الهند، وبلاد ظفار بين عدن ومسكت (2) على ثماني مئة ميل من الأولى وستمئة وأربعين ميلاً من الثانية وهي خاضعة لسلطان عمان وعليها والٍ من قبله اسمهُ سليمان ولي عليها منذ ثماني عشرة سنة ولهُ يد في تنصيب السلطان تركي على بلاد عمان وهو شديد البأس نافذ الكلمة في قبائل العرب حتى بلاد نجد والجميع يخافونه ويخشون سطوتهُ .
على ظهر الباخرة العثمانية
وقد نزلنا في الباخرة العثمانية الحديدة من مسكت قصبة عمان وسرنا بها إلى مرباط (3) وهي أول فرضة من بلاد ظفار وفيها الآن نحو خمسين بيتاً وقليل من أكواخ العرب وهي على لسان داخل في البحر ومرفاها أمين فرحَّب بنا أهلها أولاً ثم رابهم أمرنا فانتفضوا علينا لغير سبب ظاهر ومنعونا من دخول مدينتهم ولعلهم ظنوا أننا أتينا لنتجسس أمرهم لأنهم يتجرون بالعبيد . ثم اجتمع شيوخهم في مشورتهم وتذاكروا طويلاً وقرَّ قرارهم أخيراً على قبولنا فانزلونا في برج كبير. ولم تطب لنا الإقامة في مرباط لفساد هوائها وكثرة البطائح في ضواحيها فقمنا في اليوم التالي واستأجرنا سفينة لنسير بها إلى الحفا وهي على أربعين ميلاً من مرباط . وكانت السفينة قذرة كغيرها من سفن العرب(4) وفي قاعها ماءٌ منتن كادت تزهق أرواحنا من رائحتهِ فجعل البحارة يوقدون اللبان وكان وسق سفينتهم منه فغلبت رائحته على الروائح الخبيثة. ولم تكن السفينة خالية من كل زينة وأثر صناعة لأن لأولئك البدو مهارة في نقش الخشب فترى سفنهم كثيرة النقوش والزخارف.
في قصر الوالي سليمان
وليس على ساحل البحر بين عدن ومسكت بقعة خصبة غير سهل ظفار وهو غزير الماء خصب التربة فيه كثير من شجر النارجيل وعلى ساحلهِ قرى عامرة فرسونا لدى قرية منها واستقينا من مائها ودفعنا للسكان تمراً بدل الماء وهي عادة لهم يعطون الماء للمسافرين ويأخذون التمر بدلاً منه. وبعد عناء كثير بلغنا الحفا وهناك قصر الوالي سليمان وكان معنا كتاب له من سلطان عمان فرحب بنا وأنزلنا في قصره وأتت زوجاتهُ وزرن زوجتي وأهدين إليها كثيراً من نفيس الفاكهة وصبغاً لتصبغ به أسنانها. وبكر الوالي مفلوج(5) ولذلك أوصى بولاية عهده لابن أخيه وهو ساكن معه في جانب من القصر .وله ولدان آخران عمر أحدهما اثنتا عشرة سنة وهو أبيض الوجه أشقر الشعر من جارية شركسية أهداها إليه سلطان عمان ولكنها هربت إلى بمباي مع ولدها هذا فاهتدى إليها وأرجعها ثم بعث بها إلى زنجبار وهي الآن خادمة فيها في بيت أحد أمرائها . وعمر الولد الثاني خمس سنوات وهو من جارية سوداء. وقد بلغنا عنها أن سيدها ارتاب بها فحفرت لها حفرة دفنت فيها إلى وسطها ثم رُجمت بالحجارة إلى أن قضت نحبها .وفي منطقة(6) كل منهما خنجر مذهب من خناجر عمان. وفي ساحة القصر كثير من الأسرى أسرهم الوالي سليمان بحرب نشبت بينهُ وبين قبيلة مهري(7) على عنبر(8) قذفه البحر في بلاده فاختلستهُ هذه القبيلة .
جبال العارة وقبائلها
وكنا عازمين أن نقطع جبال الغارة(9) ونرى ما وراءها فدعا الوالي مشايخ عرب العارة إلى الحفا وأوصاهم بنا وهم يهابونه ولا يعصون له أمراً فاتفقنا معهم على مال ندفعه إليهم أجرة جمالهم وحمايتهم لنا. والنقود الرائجة هناك الريال النمسوي(10) (أبو طيره) لاغير . ورئيس هؤلاء المشايخ الشيخ صائل شيخ بيت الختن وهم أكبر بطن من بطون قبيلة العارة وهو كبير السن واسع الثروة عنده خمسمئة من البقر وسبعون جملاً ولكنه عار لا ثوب عليه سوى فوطة على وسطهِ .
وقبيلة الغارة متبدية في تلك الجبال تنتجع المراعي والمناهل لأنعامها وتأوى إلى الكهوف التي احتفرها أسلافها في غابر الزمن ولا مأوى لها غيرها في الجبال وأما إذا نزلت إلى سهل ظفار في الشتاء ابتنت خصاصاً (11) من الحلفاء لسكناها.
الناجي من الغرق
وفي أوائل هذا القرن غرقت سفينة أميركية على شاطئ هذه البلاد فقتل كل من فيها إلا شاباً من البحارة استحياهُ رجال هذه القبيلة فعاش بينهم وتزوج منهم ثم صار له شأن كبير فجعلوه شيخاً عليهم ومات وخلف ابنتين فقط لم تزالا في تلك الجبال. ولو التقى به أحد الأوربيين قبل وفاته لسمع منه أموراً كثيرة من أغرب ما رواه الرواة .
الهوامش :
1- قالوا أبو الفداء ظفار مدينة على ساحل خور وفد خرج من البحر الجنوبي وطعن في البر من جهة الشمال نحو مئة ميل وعلى طرف هذا الخور مدينة ظفار ولا تخرج من المراكب بهذا الخور إلا بريح البحر ويقلع منها في الخور المذكور إلى الهند و ظفار قاعدة بلاد الشحر أراضيها، كثير من نبات الهند كالنارجيل والتنبل وشمالي ظفار رمال الأحقاف ، و في القاموس : ظفار بلد باليمن قرب صنعاء و آخر بها قرب مرباط وإليه ينسب القسط لأنه يجلب إليه الهند ، وهذه هي ظفار الساحل المقصودة في المتن، والظاهر أن أبا الفدا خلط بين البلدين وكأنه أراد بالخور وادياً كبيراً يمتد من صنعاء إلى البحر مئة ميل أو أكثر ، وقد زار ابن بطوطة الطنجي ظفار الساحل منذ نحو خمس مئة وسبيعين عاماً فقال فيها ما نصه :” ركبنا البحر من كوا إلى مدينة ظفار الحموض وهي آخر بلاد اليمن على ساحل البحر الهندي ومنها تحمل الخيل العناق إلى الهند مع مساعدة الريح في شهر كامل ، وقد قطعته مرة قلقوط ” ككت ” من بلاد الهند إلى ظفار في ثمانية وعشرين يوماً بالريح الطيبة ” سنة 748 هجرية ” وبين ظفار وعدن في البر مسيرة شهر في صحراء وبينها وبين حضرموت ستة عشرة يوماً وبينها ويبن عمان عشرون يوماً ومدينة ظفار في صحراء منقطعة لا قرية بها ولا عمالة لها ، والسوق خارج المدينة بربض يعرف الحرجاء وهي من أقذر الأسواق وأشدها نتناً واكثرها ذباباً لكثرة ما يباع بها من الثمرات والسمك ،واكثر سمكها النوع المعروف بالسردين وهو بها ومن العجائب أن دوابهم إنما علفها من هذا السردين، وكذلك غنمهم ولم أر ذلك في سواها …وهم أهل تجارة لا عيش لها إلا منها ولباسهم القطن وهو يجلب إليهم من بلاد الهند ويشدون الفوط على أواسطهم عوض السروال ..وأكثرهم رؤوسهم مكشوفة لا يجعلون عليها العمائم ، ولهذه المدينة بساتين فيها موز كثير كبير الجرم وزنت بمحضري حبة منه فكان وزنها اثتنتى عشرة أوقية طيب المطعم شديد الحلاوة وبها ايضا التنبول والنارجيل المعروف بجوز الهند، وكان على ظفار حينئذ الملك المغيب ابن الملك الفائز ابن عم ملك اليمن ..
وأتى إلى ظفار بالبادري بابز اليسوعي في اوائل القرن السابع عشر أسيراً ، فوجدها خاضعة لسلطان الشحر وكانت عاصمته في حضرموت والظاهر أن ظفار خربت من ذلك الحين لأنه ليس هناك الأن مدينة بهذا الاسم بل قرى كثيرة وهي الدهاريز والطاقة والسلالة والحفا والعقار والرباط وهنالك خرائب مدينة قديمة تسمى البلد ولعلها خرائب ظفار نفسها ، وذكر ابن خلدون ظفار فقال : انه كان على بابها بالقلم الأول في حجر أسود أبيات يقال فيها :
يوم شيدت ظفار قيل لمن
انت قالت لخير الأخيار
ثم سبلت من بعد ذلك قالت
إن ملكي احابش الأشرار
ثم سبلت من بعد ذلك قالت
إن ملكي لفارس الأحرار
وقليلا ما يلبث القوم فيها
غير تشييدها الحامي البوار
من أسود يلقيهم البحر فيها
تشعل النار في أعالي الجدار
2- كذا يلفظ بها الحضارمة الأن ويكتبونها ،لكن ابن بطوطة كان كتبها مسقط ، وكذا وردت في القاموس والتاج قالا ومسقط كمقعد بلد هي على ساحل بحر عمان مما يلي بر اليمن يقال وهو معرب مشكت.
3- قال أبو الفداء : مرباط بكسر الميم وسكون الراء على ساحل جون ظفار وهي بليدة في الشرق والجنوب من ظفار. قال الادريسي : وبين مرباط وبين قبر هود عليه السلام خمسة أيام ، وقال في كتابه نزهة المشتاق : وبجبال مدينة مرباط ينبت شجر اللبان ومنها يُجهز إلى البلاد .
4- لم يتحمل هذا الانكليزي إلا أن يتهم سفن العرب جميعها بالقذارة وكأنه ركب كل سفنهم ورأى ذلك فحكم عليها ! ” ش “
5- مفلوج : فُلج الرجل ،أصابه داء الفالج فهو مفلوج ،المعجم الوجيز “المبسط ” ص 553 “ش” .
6- منطقة : وسطه .
7- مهري : مقرد مهاري وهي قبيلة كبيرة “ش”
8- العنبر مادة تفرز من أمعاء الحوت وتطفو على البحر فتبلغ الساحل وقد يقع الحوت كله على الساحل فيوجد العنبر في أمعائه ، وبلغنا من أهل اليمن أنهم يكتسبون الأن كثيراً من التقاط العنبر .
9- الغارة : ولعله تصحيف ” العارة ” انظر صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز المسماة تاريخ المستبصر ،لأبن المجاور ص 100 ، 10، 102 ” ش”.
10- الريال النمسوي : ريال الملكة تريزا ،الريال الفرنسي له تسميات مختلفة لعملة واحدة ، عرف بالكويت ب “الريال الفرنسي “وهو في الحقيقة ريال نمسوي وهو عملة دائرية كبيرة من الفضة بنسبة عالية جدا ًضُرب في النمسة عام 1780 م ” انظر عبدالمغني ، تاريخ العملة في الكويت ، ص 23 ” “ش ” .
رابط الكتاب هنا
تابعنا هنا
ا/شترك في ايميل خدمة تلقي الاخبار المجاني هنا
اعداد مجلة تراثنا هنا
اصدارات مركز “المخطوطات هنا
جولة بين فهارس مكتبات المركز هنا
مقتنيات معرض مركز المخطوطات هنا