رأي
العدل في الصدور قبل اللسان
كتب : د . محمد بن إبراهيم الشيباني* :
مر قروي بمحكمة من محاكم روسية ، فرأى تمثال العدل منصوبا أمامها ، فقال لأحد الوقوف: تمثال من هذا ؟ فأجابه : تمثل العدل ! فقال القروي : كذا ظننت لأنه خارج المحكمة لا بداخلها !
خذ الحكمة من أفواه المجانين أو من البسطاء ، أو من الأميين ، والمقصد أن هؤلاء يطلقون كلماتهم من دون تصنع أو تكلف أو إعداد مسبق ، فهي تجري على أفواههم مجرى الماء في جداوله ويخرجون من الورطات كذلك بالسجية نفسها .
ومن ذلك أنه يحكى أن الحجاج بن يوسف الثقفي في إحدى رحلاته للقنص اختلى بنفسه ، فإذا جاء برجل عامي يسير ، فسلم عليه ، فقال له : ما قولك في الحجاج ؟ وهو لا يعرفه ،قال : هذا أنجس الكل سود الله وجهه ووجه من من أستعمله على هذه البلاد !
فقال الحجاج : أتعرف من أنا ؟ قال : لا ، قال : أنا الحجاج ، قال : أناك ففداك ، وانت تعرف من أنا ؟ قال : لا . قال : أنا زيد بن عامر مجنون بني عجل أصرع كل يوم مرة في مثل هذه الساعة ، فضحك الحجاج و أجازه .
تنقسم الدول في العالم في تحكيم دساتيرها العدلية والقانونية إلى ثلاثة أقسام ، قسم من يطبق أحكام القانون بحذافيره ، وعدم الخلل فيه والحيد عنه وعن مفهومه الديني ، وقسم من يميل فيه على حسب القوى المؤثرة أو المتسيدة فيه ، لا سيما أذا كان ما يخص القوانين الشعبية العامة ، يؤول أحكامها وفق تلك الظروف ، وقد ينحرف كثيراً في الأحكام الخاصة ، أي قضايا الناس المالية والأسرية أو الجنائية بشكل عام .
أما القسم الأخير ، فتمثله الدول التي تخرف فيها القوانين ، وتنتهك الحقوق بشكل سافر فاضح ، وذلك لتفشي الفقر في هذه الدول والرشى في تغيير القوانين والعبث بها جهاراً نهاراً ، أي أن الذي لا يملك قوة ولا سنداً أو ظهراً من حزب أو نفوذ مالي أو عصابات تهدد وتتوعد رجال الفضاء بالويل والثبور ، اي بالقتل واتلاف ممتلكاتهم وغيرها كما هو معلوم ومشاهد في مناطق كثيرة من العالم المتحضر أو المتخلف مثل دول أميركة الجنوبية ضاعت حقوقه ، وكثيرة في الدول التي تماثيل الحرية والقانون فيها خارج محاكمها ، بل ليس فقط معصوبة أعين تماثيلها ، بل العصابة على أفواهها وآذانها كذلك ، أي ليست العدالة فيها حقيقية .
القضاء .. نسأل الله السلامة ، أمره عظيم ، ومن يتقلده فقد ارتقى فيه مرتقى صعباً ، وقد هلك فيه من هلك ونجا من فتنته بصعوبة من نجا .
القضاة ثلاثة
عَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: اثْنَانِ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ: رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَلَمْ يَقْضِ بِهِ، وَجَارَ فِي الْحُكْمِ، فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ، فَقَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ، فَهُوَ فِي النَّارِ. رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
*رئيس مركز المخطوطات والتراث والوثائق مجلة تراثنا
تواصل مع تراثنا