الحلقة 2
قضاء الوقت عند البدو
تراثنا – بقلم المؤرخ صالح هواش المسلط :
لأهل البادية فنونهم وتراثهم وآدابهم ، تنوعت وتعددت ، بتنوع المواقع التي سكنوها في الفيافي والصحاري ، وبدأت هذه المظاهر بالتلاشي في القرن العشرين بتوقف الغزو ،والاتجاه إلى العمل في وظائف الدولة وغيرها ،فلم يبقى غير التعيش على فنون الماضي وذكرياته ( حلقات الدراسة) .
يتعاطى البدو في مجالسهم قهوة البن ، وهم يجيدون طبخها لفراغهم وتوفرهم على معالجتها ، وقد يستغني البدو عن الأكل ، أو يقلل منه كثيراً ، ولكنه لا يستغني بحال عن تعاطي القهوة في كل ساعة ، فالقهوة نقله وحلواؤه وشرابه المنعش ، وقد يصرف أحدهم ثمن بن في السنة أكثر مما يصرف على طعامه ولباسه ، وأحب الهدايا إلى قلب البدوي أن تحمل إليه مقداراً من البن(*) .
آداب شرب القهوة في البادية
-
قد يصرف البدوي على ثمن البن في السنة أكثر مما يصرفه على طعامه وشرابه .. وهي أحب الهدايا إلى قلبه .
-
دق القهوة في النجر له صنعة خاصة ، تحدث رنات مختلفة شجية ، حسبما يكون الضرب في قاع النجر أو في حوافيه .
-
امتناع الضيف عن شرب القهوة قد يعني شر أو حاجة يطلب قضاءها فإذا قُضيت له شرب قهوتهم دلالة الرضى .
-
يشرب طباخ القهوة منها أمام ناضري الضيوف ليعلم الحاضرين أنها ليست مسمومة ..!!
-
يشرع تدوير القهوة على الحاضرين ، في الدورة الأولى إسقاء القهوة للضيوف المميزين والثانية بدءاَ من اليمين دون تمييز .
أدوات القهوة
فمن أدوات القهوة عند البدو (على اختلاف التسميات في البلدان العربية ) :
النجر
وهو جرن القهوة ، ويكون في الغالب من خشب البطم ، أو الزيتون المشغول من النحاس الأصفر ، وحجم النجر يختلف ، فقد يبلغ علوه أحيانا 3- – 50 سم ، وكذا قطره .
المهباج
وهي الأداة التي يدق بها البن في النجر ، واستعمال المهباج ودق القهوة في النجر له صنعة خاصة ، تحدث رنات مختلفة شجية ، حسبما يكون الضرب في قاع النجر أو في حوافيه .
صناع القهوة
ولصنعة دق القهوة أناس خاصون ، واكثرهم حذاقة بذلك هم العبيد ، خدم كبار الرؤساء المكلفون بطبخ القهوة وتقديمها ، ودقات النجر وسماعها من علائم الاجتماع ودلائل الجود والكرم لمن يحدثها لديه .
الدِلال
وهي من أدوات صنع القهوة عندهم ، والدلال جمع دلة ، وهي من النحاس الأصفر ، وكبيرتها تدعى ( مفورة ) من التفوير ، والصغرى ( مصب ) .
النقرة
تحتوي النقرة دائما قليلا من الضرم ، فإذا اردوا ايقادها ألقوا فيها من القش أو العشب اليابس أو بعر الأبل المجفف ، وهووها بطرف العباءة ، وكلما شبت النار ودامت في البيت دلت على كرم صاحبه وجوده ، ويضعون فوق الجمرات عدة دلال من النحاس الأصفر ملآنة بالماء كما يضعون فوق اللهب” داخن ” دائمة محمصة من الحديد ذات مقبض طويل يحمصون فيه كمية من البن الأخضر .
تقليب القهوة
وهذا العمل يقوم به أخو الضيف أو أحد أولاده أو أحد عبيده ، والقائم بهذا العمل يقلب بدقة متناهية الحبات المحمصة بواسطة ” مطنة ” إلى أن تحمر الحبات وتسود وتتدخن قليلاً ، ثم توضع داخل النجر ، وتدق بالمهباج إلى أن تُسحق وتُنعم .
المفورة
ودقيق البن الذي يحصل يوضع في دلة خاصة تدعي المفورة ذات ماء غال ، فينقع فيه ويغلي .
قهوة غير مسمومة !
ويتناول طابخ القهوة كيساً معلقا في زناره ، ويستخرج منه بضع حبات من (الهيل ) فيدقها ويضعها في المصب ، ويسكب فوقه البن المغلي في المفورة ويضع على فم المصب من الليف أو مصفاة معدنية ذات ثقوب لتصفية السائل ، ومنع مرور الثفل والرمل .
فإذا انتهى من طبخ القهوة على هذا النحو يذوق الطابخ قليلاً منها ، ليمتحن جودتها ونكهتها ، وليعلم الحاضرين أن ليس في الفناجين المقدمة إليهم أي أثر للسموم .
آداب تقديم القهوة
ثم يشرع بتدوير القهوة على الحاضرين ، ومن عاداتهم في الدورة الأولى إسقاء القهوة للضيوف الممتازين ، وفي الثانية يدورون بها من اليمين دون تمييز ، ومنها قولهم ( أول القهوة خص وثانيها قص ) .
والكمية المقدمة لا تتجاوز بضعة سنتيمترات مكعبة في كل فنجان ، إلا أنهم يشربون منها بضعة مرات متتالية .
الرفض علامة شر
ويمكن للزائر أن يرفض الفنجان الثاني ، أما رفض الفنجان الأول فلا يجوز ، ويحسب إهانة عظيمة أو إنذار بشر أو عرض حاجة يراد قضاؤها فتقضى حتما ، لكي يشرب الضيف القهوة بهناء .
وهم لا يبرحون يصبون ويناولون حتى يهز الضيف الفنجان بيده ، ورب البيت هو آخر من تقدم إليه القهوة في الدورة ، وهذه القهوة مرة ، لأنها محرومة من السكر ، والهيل ينفحها نكهة ذات حموضة وحلاوة معا.
يتبع لاحقا..
(*) : مقالة نُشرت في مجلة تراثنا العدد 41 الصادر في ربيع الثاني،جمادي الأول ( 1431هجرية – إبريل، مايو 2010 م ) .
طالع الحلقة السابقة ( الأولى ) : قضاء الوقت واللهو عند البدو