البكر عاشق مياهه الزرقاء : يحز في نفسي أن البحر أصبح حكراً على الأغنياء !
الحلقة (2-3)
تراثنا – خالد أبو قدوم :
في لقاء مطول أجرته تراثنا مع الباحث و الأديب محمد يعقوب البكر ، تناول في الجزء الأول نشأته في الحي القبلي ، مستذكراً الأحياء القديمة وجيرانه في مدينة الكويت القديمة ، كما تطرق الحوار إلى منطقة “بهيتة” وسر تسميتها بهذا الإسم ، بالإضافة إلى الحديث عن العادات الكويتية في موسم رمضان ومناسبات الأعياد .
في الحلقة الثانية ، يتحدث الباحث البكر عن ولعه بالبحر وهواية الحداق لديه، كما نأتي بجانب من اشعاره التي كتبها في اصداراته ، إلى جانب اهتماماته البيئية والحفاظ عليها وانتقاده لاحتجاز مساحات كبيرة من شواطئ البحر لفئة معينة من الناس .
الكاتب والأديب محمد البكر
-
كانت حياة الكويتيين في الماضي بعيدة عن التعقيد وتغلبوا على مصاعب بيئتهم بتنظيمهم وحسن تدبيرهم .
-
طعام أهل الكويت كان يتوافق مع الطبيعة فلا يأكلون لحوم البقر الحارة إلا شتاء بينما يأكلون الجمال الباردة صيفا !
-
خلطة ممزوجة مع السلطعون تٌعرف ب ” سم السمك ” نننثره على البحر فيطفو الميد على سطح البحر ميتاً !
-
خسرت الكويت إرثاً تاريخياً لا يُعوض بتدمير المهلب ، وأنشئ عوضاً عنه مهلباً جديداً لا تاريخ له !
-
لم يكن أحداً من منطقة ما يورد على ديوان في منطقة اخرى ، خوفاً من أن تتلوث أفكاره بأفكارهم ..ويُسمى ” لوثه ” !
-
المؤرخ مرزوق الشملان أنقذ بمشورة للأمير الراحل جابر الأحمد الديوانيات التاريخية المطلة على البحر من من الهدم .
-
كانت دواوين الكويت اذا تحدث أحدهم أستمع له الجميع وكانت اشبه بالوزارات التي توفر فرص العمل ويقصدها الفقراء.
اوقات الغوص والصيد
يقول البكر في معرض الحديث عن ذكرياته في الماضي : : رغم بساطة حياة الكويتيون ورغم بساطة في السابق ، وابتعادها عن التعقيد ، إلا أنهم كانوا منظمين ومدبرين، ما جعلهم يتعايشون ويتغلبون على بيئتهم الصعبة، وأحد أشكال النظام كان وقت دخولهم الغوص الذي يبدأ من شهر 5 وينتهي في شهر 8 ، وإذا خفت الحرارة مع دلق سهيل دخلوا البحر للصيد، ولا يتوقفون إلا مع ظهور ” النجم الأحيمر” في شهر 11 التزاما من تلقاء أنفسهم، قبل أن يصدر قانون الصيد في الاربعينات، بل وحتى طعامهم كان وفق نظام يتوافق مع الطبيعة ، تجنباً للضرر والأمراض فالمثل يقول : ” الحكيم طبيب نفسه ” فلا يأكلون لحوم البقر وهي من اللحوم الحارة إلا شتاء، ومنه يصنعون الهريس والجريش إلى جانب المحمر والعصيدة والمرقوق والبلاليط، وكلها أكلات خاصة بالشتاء، وكذلك الربيان والاسماك الجافة، أما بالصيف فيأكلون لحوم الجمال لأنها باردة وأقل دسومة إلى جانب “مرقة هوا” و”شيخيله” وغيرهما من الأكلات الصيفية، وفي الربيع لحوم الأغنام فهي معتدلة الحرارة.
البكر والبحر
ونظراً لسكن البكر بجوار البحر ، فقد نشأت بينه وبين مياهه الزرقاء الصافية علاقة، فعلى شاطئه يسهرون ويتنزهون وفي ماءه يبحرون ويصيدون، منها ما هو بطريقة تقليدية بالشباك ومنها ما هو غير تقليدي، يخبرنا عن احداها وهي مخصصة لصيد سمك الميد كان يستعملها برفقة أصحابه في حقبة الخمسينات ، تُسمى “سم السمك ” ،حيث يقول البكر : ” نشتري من الحواج بذور صغيرة جافة مدورة بحجم حبة الكنار (النبق) تقريباً، وندقها ثم نخلطها بالصل الذي تدهن به السفن منعاً لتسرب الماء إليها، ثم نضيف لهما ” الشرايب ” ومفردها شريب وهي السلطعونات الصغيرة نطحنها مع بعضها البعض حتى تصبح عجيناً يُسمى” سم السمك ” ،ثم ندخل البحر إلى مستوى الخصر أو اكثر ،ونقوم بنثره على سطح الماء، وبعد قرابة النصف ساعة نجد سمك الميد ميتاً طافياً على السطح، فنجمعه ونقوم بشويه دون ان يكون للسم تأثير على صلاحية الميد أو طعمه “…ويضيف ضاحكا : ” ها انا امامك بصحة وعافية بعد كل هذه السنين ” .
الأدب والشعر
ولأن البكر أديبا شاعراً وقصاصاً، كان من الطبيعي أن يعبر عن حبه لمحبوبه البحر بقصائد شعرية تحكي عن الحداق والتنزه وعن أدوات الصيد والسفن، بل وكل ما له صلة بالمياه الزرقاء، وهذه بعض ابياته مكتوبة بالعامية :
سقاك الحيا يا ساحل الزور
ذكرتني بأيام ويا الربع فيك
ذكرتني بخيط حداق ومجرور
وأيام راحت نقضت مع لياليك
واليوم الكل مننا معذور
انت تبينا وحنا يا زور نبغيك
لا شك حطوا بينا حاجز مع سور
وشاليهات مبنية لا نطولك ولا نجيك
البحر للأغنياء !
هذه الأبيات القليلة ، تختصر ما آل إليه البحر، فبعد أن كانت سواحله للعيان مفتوحة للجميع أصبحت المدنية وما جلبته من شاليهات حاجزاً بين البحر وأهله.. يقول البكر رافضاً الانصياع للأوضاع : ” يحز في نفسي ان البحر الذي كان مفتوحاً للجميع ، أصبح اليوم للأغنياء فقط ، بفعل منتجعاتهم وشاليهاتهم التي غطت البحر وسواحله ، ولم يتبق منها إلا القليل، وأخشى أن نفقد البقية الباقية ، فلا نجد شاطئاً للتنزه”.
وهنا تستحضره أبيات عن سفينة المهلب المخصصة للأسفار، والتي حُرقت وُدمرت في الغزو العراقي الغاشم للكويت ، وهي التي جالت البحار شرقاً وغرباً طيلة خدمتها أيام الغوص ، فخسرت الكويت إرثاً تاريخياً لا يُعوض ، وأنشئ عوضاً عنه مهلباً جديداً ، لكنه للأسف بلا تاريخ .. يقول البكر في مطلعها :
إن المهلب هرم من الخشب
لا كالذي من الحجر فرعون بانيه
ولكل منها رمز وفيهما عبر
وتاريخ مجد للأجيال يحكيه
مصر العروبة شيدت مجدها
فهل آن للكويت أن تحييه
فأحيوا مجدكم يا أهلي وهبوا له
لا خير فيمن لا خير لأهله فيه
تدمير المعالم والاثار
يعبر الباحث محمد البكر عن ألمه لتدمير معالم تاريخية عاصرها تهدم وتسوى بالأرض بحجة التطوير، وهي التي كانت شاهدة على تاريخ الكويت لعقود طويلة .. يذكر لنا البكر اهم تلك المعالم ويقول بحسرة على ضياعها ” قُدم في عهد الأمير الراحل الشيخ عبدالله السالم ” يرحمه الله ” اقتراح بتسوير مدينة الكويت القديمة بدلا من هدمها، وجعلها معلماً من المعالم، وبناء مدينة الكويت الحديثة بجوارها ليتجاور القديم مع الحديث، لكن قصر النظر وجشع التجار أصحاب المصالح كان يقضي بهدمها، وكان لهم ما أرادوا فبنيت الكويت الحديثة على اطلال قديمها “.
ويستطرد قائلا ” : وهو ما حدث بالفعل، حيث هُدم سور الكويت عام 1957 ولم يتبقى منه الا البوابات الاربع، أما ما تم انقاذه من الهدم والتدمير فيرجع الى جهود فردية ، شاء الله ان يكتب لها النجاح كالديوانيات القديمة المطلة على البحر للنواخذة والتجار” .
ويذكر البكر كيف نفذت الديوانيات المطلة على الخليج من جرافات الهدم، سمعها شخصياً من لسان منقذها، فيقول : ” كثر الله خير العم مرزوق سيف الشملان، كلم الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد ” يرحمه الله ” أن يبقي على الديوانيات، حتى لا يذكر التاريخ ان البقية الباقية من المعالم الكويتية قد هُدمت في عصره”.
ديوانيات كالوزارات
يبدو ان كلمات العم الشملان قد وقعت في قلب الراحل جابر الاحمد، فبقيت الديوانيات حتى اللحظة شاهدة على جزء ولو يسير من تاريخ الكويت، خصوصا وانها لم تكن مجرد ديوانيات بل ” وزارات مصغرة ” كما يصفها الباحث البكر ويعلل ذلك بقوله : ” كانت الديوانيات قديما وبالذات ديوانيات النواخذة والتجار قبلة للباحثين عن الوظيفة حيث يتيسر لهم لقاء أرباب العمل، كما انها مكان لتقديم الزكوات والصدقات يقصدها الفقراء والمحتاجين وللضيافة كذلك، هذا من جانب وأما من جانب اخر، فكان للديوانية احترامها وآدابها، فاذا تكلم احد سمع وانصت له الجميع، وهو ما يختلف تماما عن ديوانيات اليوم اختلافاً جذريا “.
دواوين العزاء
الحديث عن الديوانية اطلق العنان للسان البكر مبدياً امتعاضه من ديوانيات اليوم التي اسماها بـ ” دواوين العزاء “..اما سر التسمية فيكشفه : ” كثير من رواد الديوانيات يأتيها لمدة خمسة دقائق ويمضي إلى اخرى وهكذا كما هو العزاء اليوم “.
لوثه !
ويواصل : ” واما زيارة الديوانيات الاخرى فكنا نسميه سابقا ” لوثه”.
ويفسر معنى الكلمة بالقول: ” في السابق لم يكن أحداً من منطقة يورد على ديوانية منطقة اخرى، خوفاً من أن تتلوث أفكاره بأفكار الأخرين المخالفة للأفكار السائدة بمنطقته وطبائعهم ” !! .
* ترقبوا الحلقة ( الثالثة ) والأخيرة من اللقاء قريباً
• أقرأ الحلقة السابقة ( الأولى ) : البكر ..ثلثا مدينة الكويت هدمت في أمطار سنة هدامة
تواصل معنا
زيارة الصفحة الرئيسة ( تراثنا ) – حساب ( تراثنا ) على منصة تويتر – حساب ( المخطوطات ) على منصة انستغرام – مجلة ( تراثنا ) الورقية – الموقع الالكتروني لمركز المخطوطات والتراث والوثائق • تتوفر تراثنا عن طريق الاشتراك فقط حاليا ً.. التعقيبات والمساهمات ضمن بريد القراء ادناه -هواتف المركز : 25320902- 25320900/ 965 +