الحلقة الثانية
علم الرواية والدراية
قيّـض اللــه للـوضاعـين والمـدلسـين من كشـف عن زيـفهم وفضح سرائـرهم
تراثنا – التحرير :
تستكمل تراثنا نشر الجزء الثاني و”الأخير” من بحث ” تطور الرواية من الجاهلية إلى الإسلام ” للدكتور رفيق حسن الحليمي – رحمه الله – حيث تناول تفاصيل حال الرواية بين عصري الجاهلية والإسلام ، و تطورها بحيث أصبحت علماً يهتم بحال رواته ومصطلحاته ، وله فنون ضبطه بعد أن كانت الرواية في الجاهلية لا تحظي بكل هذا الاهتمام ..وهي خصوصية لا تجد لها مثيلاً إلا في أمة الإسلام .
• تدرجت الـروايـة نحو التأصيل العلمي الفريد حتى غدت علماً قائماً بذاته له أصوله وقواعده ومصطلحاته « النـادرة » .
• الرواية في الإسلام بمنزلة ” شهادة ” وهو مصطلح يفرض على الراوي ضرورة الالتـزام بمبـدأ الأمانـة والصدق.
• سعى علم الحديث إلى التثبت من صحة ما روي عـن النبيّ صلى الله عليه وسلم وتحديد درجـة الحـديث لما يترتب على ذلك من قضايـا فقهية .
من مصطلحات علم الرواية
في أثناء اشتغال المسلمين بالرواية الإسلامية – على مدى عقود وعقود – تولـد العديد من المصطلحات التي خـدمت علوم الـقران ، وعلوم السنة النبـوية ، كما خـدمت علوم اللـغـة أيضاً، فقد أخذت الـروايـة تتدرج نحو التأصيل العلمي الفريد حتى غدت علماً قائماً بذاته له أصوله وقواعده ومصطلحاته « النـادرة » وأصبحت من العلوم الفائقة ، ومن أبـرز معطيات الحضور الإسـلامي في الثقافة والـفكر والتاريخ ، ومن أهم معالم الحضارة الإسـلامية ، والعلوم الدينية ، حتى يومنا هذا .
مصطلح الشهادة
لعل من بين أبرز المصطلحات في الرواية الإسلامية كلمة « الشهادة » حيث جعل الإسـلام الـروايـة شـهادة ، بمـا تـفرضه على الراوي من ضرورة الالتـزام بمبـدأ الأمانـة والصدق في الـقول واجتنـاب شهادة الزور ، وأصبح الـراوي مسئولاً عما يروي ، وإذا ثبت خروجه عن جادة الصواب رُدَّت عليه روايته وناله التجريح في شخصه ، ولم يعد للمسلمين حاجة في روايته ويتوقف الأخذ عنه .
الشهادة في جمع القران
وقد بـدأنا الحديث بمصطلح الشهادة، لما تحمله من دلالة دينية ، ولأسبقيتها مختلف المصطلحات، ومما يذكر بـهذا الخصوص قول أبي بكر الصديق – عندما أرادوا جمع الـقرآن على عـهده – لـعمر بن الخطاب ولـزيد بن ثابت : اقعدا على باب المسجد ، فمن جاءكما بشـاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه ، ويقول زيد: وجدت آخر التوبة ( لقد جاءكم رسول ..الآية ) مع أبي خزيمة الأنصاري الذي جعل النبيّ[ شـهادته بشـهادة رجـلين ، ولم أجـدها مع غيره فألحقتها في سورتها ، وقد التزمت اللجنة بـهذه القواعد، حتى قيل إن عمر نفسه أتي بما ســموه بآية الرجـم ، فلم يكتبها زيد لأن عمر كان وحـده ، أي جـاء بشـهادة واحـدة ، وكذلك فـعل عمر فقد ردّ شـهادة ابنـتـه حـفصة زوج النبي فـي قـولها : اكتبوا ( والصلاة الوسـطى صلاة العصر ) ، وقال لها أبـوها : ألك بيّـنة بهذا ؟ قالت لا، قال: فوالله لا ندخل في القرآن ما تشهد به امرأة بلا إقامة بيّنة.
ظل مصطلح « الشهادة » وما تـفرع عنـه من مصطلحات لا تبـعد عن دلالته (مثل : الدليل والبرهان والبيـنة والحجة والاحتجاج) أسـاساً علمياً يؤخذ بـه في كثير من العلوم الدينية والبحوث اللغوية.
• إذا ساور علماء الحديث أدنى شبهة في الراوي أو في الحديث – بسبب انقطاع السند في روايته ، أو جَرْحٍ فيمن رواه ..استبعدوه وضعفوه.
علم الحديث ومصطلحاته
وقد حظيت السـنة النبوية – في العصور المتأخرة – بالكثير من المصطلحات بما يفوق الوصف، فقد ظهر مـا يسمي بــ« علـم الحديث ومصطلحه »، وهو علم مسـتقل لـه أصولـه وفروعـه ، وهي في جملتهـا تـسعى إلى التثبت من صحة ما روي عـن النبيّ، وتحديد درجـة الحـديث ومقـداره من الصحة لما يترتب على ذلك من قضايـا فقهية وأمور دينية ، وقد فاض هذا العلم بعدد من المصطلحات مثل : المتواتـر ، الأحـاد – الصحيح – الحسـن – الضعيف – الشـاذ – المنكر ، ثم ظهر في ضوء ذلك ما عـرف بـعـلم الجـرح والتعـديـل ، ورجـال الحـديث وعـلم مختلـف الحديث.
مفهوم التواتر
ونكتفي بـالتوقف عنـد مدلـول واحــد من تلك المصطلحـات ، كما ورد عنـد الخطيب البغدادي في مفهوم « التـواتر » إذ يقول : « فأما خبـر التواتر فهو ما يخبّـر به القوم الذين يبـلغ عددهم حـداً ، يُعلم عند مشاهدتهم بمسـتقر الـعادة أن اتـفاق الكـذب عـندهم محالٌ ، وأن التواطؤ منهم في مقدار الـوقت الـذي انتشـر فيه الخبر عنهم فيه متعذر، وأن ما أخبروا عنه لا يجوز اللبس والشبهة في مثله ، وأن أسـباب الـقـهر والغـلبـة والأمور الداعية إلى الكـذب منفـية عنهم ، فمتى تـواتـر الخـبر عن قوم هـذه سبيلهم قُطِع على صدقه ، وأوجب وقوع العلم ضرورةً ».
ولا بد من وقفة عند هذا التعريف للتأمل والتحليل ، فهو يتضمن :
٭ وجود قوم ( جماعة من الناس ) ينقلون خبراً ما .
٭ يبـلغ عددهم حداً ( أكثر من ثلاثة لوجـود الضمير « هم »، وأما جـمع القرآن فكان زيد بن ثابت وعمر بن الخطاب يقبلان شـهادة رجلين، إضافة إليهما، فقد كانا يحفظان القرآن ) وكأن هناك أربع شهادات .
تش
٭ حداً، يُعلم عند مشاهدتهم بمستقر العادة أن اتـفاق الكذب عندهم محال ( أي إذا نظـرنا إليهم وما جـرت عليه الـعـادة من معرفتنا بــهم نـعلم أنـهم صادقون ، وهذا ما عرف بفحص الرجال = علم الرجال ).
٭ وأن التواطـؤ منهم في مقدار الـوقت متعذرٌ (مقدار الـوقت الـذي نقلوا فيه الخبر إلينا – واحـداً بـعد الآخر – ضيقٌ ، فلا يسـمح لهم بالتلاقي والتشاور فيما بينهم للكذب).
٭ وأن ما أخبروا عنه لا يجوز دخول اللبـس والشبهة على مثله ( وهـذا ما عرف بنقد المتن وهو النص المنقول) .
٭ وأن أسباب القهر والغلبة والأمور الداعية إلى الكذب منفية عنهم ( أي أنهم جاءوا بمحض إرادتهم ولم يفرض عليهم أحد ذلك).
٭ فمتى تواتر الخبر عن قوم هذه سـبيلهم قُطِع على صدقه ، وأوجـب وقوع العلم ضرورةً (وجود هذه الشروط مجتمعة تؤكد صدق الخبر، ويلزمنا العمل بموجـبه)، ويسمى حينئذ « متوتـراً » أي : تـواترت وتـتابعت وتـوالت على صحته الأقوال التي لم يتواطأ أصحابها على الكذب.
طالع الحلقة الأولى :
تطور الرواية من الجاهلية إلى الإسلام- الحلقة الثانية والأخيرة
• لو تأملنا في أسـس المنهج الذي أخـذ به المحدّثون – من أمثال البخاري ومسلم وغيرهما – أنفسهم في رواية الأحاديث لهالتنا صرامة المنهج .
تعريف محكم صارم
فهل بعد هذا التعريف المستفيض المحكم بما تضمنه من شروط دقيقة لمفهوم التواتر ، ما نطـمح إلى أكثر منه لتأسيـس مشروع علمي للرواية الـدينية ، ثم ، أوليـس في هـذا المفهوم ما تـأخذ بـه المحاكم ودور القضاء لإثبات البراءة وصدق شهادة الشهود من عدمها ، ثم تطبيق الأحكام بناءً عليها ؟!
كشف المزيفين
ولعلنا لو وقفنا متأملين في أسـس المنهج الذي أخـذ به المحدّثون – من أمثال البخاري ومسلم وغيرهما – أنفسهم في رواية الأحاديث لهالتنا صرامة المنهج ، ولراعتنا شدة أسره وإحكامه، فكانوا إذا ساورهم شـك أو أدنى شبهة في الراوي أو في الحديث – بسبب انقطاع السند في روايته ، أو جَرْحٍ فيمن رواه استبعدوه وضعفوه، ولا أحد ينكر البواعث الـدينية والنوايا الصادقة وراء ذلك ، فقد أرادوا الحقيقـة ، وهـي ضالــة المـؤمن ، وأرادوا تشييد صرح ديـني شـامخ يـقـوم على منهجية موضوعية دقيقة ، تنـشد الصدق ، وتبـتغي مرضاة الله ورسـوله ، لا سيـما أنـهم شـاهدوا بـأعينهم بـعض المروق في الـدين والخـروج عـن الجماعة ، حيث وقعت اختـراقات في بعض الأحـاديث ، وضعها أصحاب النفوس الضعيفة لـغـايـات ومآرب، وقـد قيّـض اللــه للـوضاعـين والمـدلسـين من كشـف عن زيـفهم وفضح سرائـرهم ، وأصبح التصدي للوضاعين من بين الأسـس التي قامت عليها الـرواية الـدينية ، وقد حدث شيء قريب منه في الرواية الأدبية حيث زيف بعض الشـعراء الشعـر ، وانتحلوه ونسبوه لقوم آخـرين ، فكان من مهمة علماء الأدب واللغة أن يكشفوا ذلك ما استطاعوا إليه سبيلاً.
تواصل مع تراثنا
الدكتور رفيق حسن الحليمي ، الرواية بين عصري الجاهلية والإسلامي ، فنون ضبط الرواية ، الرواية في الجاهلية ، الرواية خاصية بإمة الإسلام ، تدرج الرواية في التأصيل العلمي ،مصطلح الشهادة في الرواية ، الرواية الإسلامية ، الإسلام جعل الرواية شهادة ، الأمانة والصدق في الرواية ، اجتناب الزور في الرواية ، تجريح المدلس في الرواية ، الدلالة الدينية في الشهاد بالرواية، طلب الشهادة عند روايات جمع القرآن ، عمر بن الخطاب يرفض رواية ابنته حفصة في رواية آية قرآنية ، مصطلحات السنة النبوية علم الحديث ومصطلحاته ، التثبت مما روي عن النبي ، تحديد درجة الحديث ،مقدار صحة الحديث ، علم الجرح والتعديل ، رجال الحديث وعلم مختلف الحديث ، الخطيب البغدادي ، مفهوم التواتر ، منهج البخاري ومسلم في رواية الحديث ، انقطاع السند ، الحقيقة ضالة المؤمن ،