خواطر على البال
تراثنا – بقلم محمود تيمور بك :
أغلى ما يملك الأنسان ذكرياته .. إنها ذخيرته التي يخلد إليها في حياته الوجدانية .. بها يطمئن باله ، وفي مجالها يمرح خياله .. فهي لنفسه أنس وهي لروحه متاع .. من لا ذكريات له في ماضيه ، كان في حاضره تائه الذكر ، شريد الوجدان !
هذه الذكريات مرآة الماضي ، بل زبدة ما فيه من كائنات وأحداث ..
ومن طبيعة الماضي أن يجلو لك صفحته ناصعة ، ترى فيها ما هو جميل محبب ، ولو كان في حينه غير محبب ولا جميل .
هذا الماضي يحرص دائما على أن يريك ما سلف من شأنك طيباً ، وإن كنت قد لقيت من خطوبه ما لقيت وكابدت من شره جساماً من الأهوال .
لا عجب في أن يغدو الماضي جميلاً ، فهو ذاهب لا أوبة له ولا مرد ، ولا اتصال له بالزمن السائر من بعد ، فنحن نتمثل غيبته ، ونأمن جانبه ، ولذلك نستشعر له عاطفة من الإعزاز والتكريم ، ونجد له في أعماق نفوسنا نوازع الحنين !
إننا في حاضرنا نمحو ما جناه الماضي علينا ، أو قل إننا نغفر لهذا الماضي سيئاته التي أسلفا إلينا ، فللزمن نار تصهر الأحقاد ، فتصفو النفوس ولا تلبث أن تجنح إلى صفح وغفران ..
بيد أن المرء لا يمنح الماضي هذه الهبة الكريمة من المسالمة ، إلا إن استيقن أن ذلك الماضي لا سبيل له إلى الرجوع ..فلو توقع إيابه لما تعلق به ، ولما صبت نفسه إليه ، ولما غفر ما قدمت يداه من آثام .
إذا عاد الماضي عادت معه سيئاته ، تنفض عنها أكفانها ، وتعلو بهاماتها ، وتكشف عن أنيابها المسنونة .. وهيهات أن يقع ذلك منا موقع الرضا.
ولكننا نؤمن بأن ذلك الماضي عهد مضى وانقضى ، وأمس أدبر وتولى ، فلا ضير علينا في أن نذكره بالخير ، وان نوليه جانب الاشفاق .. ولعلنا نحس ميلاً دفيناً إلى أن نعزو المحامد إليه ، ونلتمس المعاذير له ، ونتفنن في تسويغ ما ساءنا من تصاريفه وتهوين ما نابنا من جرائره ما دام الماضي قد انقطع عنا ، فهو حقيق بأن نسبل على ذنوبه أستار المغفرة .. وما دام الماضي غير عائد إلينا ، فهو خليق منا بأن نطوى له نفوسنا على تعلق وحنين .
وان التذكارات المادية هي أقوى أركان الماضي ، وأقوم دعائمه ، فهي تثير الذكريات من مراقدها ، وهي تجسمها وتبعث الحياة فيها على نحو شائق مستعذب .
ولقد عرف الناس لهذه التذكارات أثرها البالغ ، فكل أمرئ يقبل عليها قلت أو كثرت ، ويعتز بها ، غلت أو رخصت ، ويستكثر منها ما وسعه أن يستكثر .
وليست تقوم هذه التذكارات بما تقوم به الأشياء في سوق الحياة فإن تقويمها أنما يكون بما تثير من ذكرى وما توحي به من حال ، فقد يكون التذكار صورة على أي نحو ، وقد يكون طرفة في أي مظهر ، وقد يكون قصاصة من ورق أو بقية من قلم ، او ما دون ذلك من عامة الأدوات والاشياء .
ورب تذكار ، هو أهم ما يملك المرء من طرف وتحف ، كان هو الفائز بالنصيب الأوفر من الإعزاز ، بل لقد يبلغ عند صاحبه مبلغ التقديس ، فلو بذلت له ما في الدنيا من النفائس بدلا منه لما نزل عنه ، ولما رضي به بديلا.
وأنا معترف بأني أحد أولئك الذين يخصون الماضي وذكرياته بالحظ العظيم من التقدير والاهتمام ، وإني لا آلو جهداً في الاحتفاظ لنفسي بما يبعث هذا الماضي ويثير ما فيه من ذكريات .
في صومعتي التي اخلو فيها إلى كتبي وأقلامي وأوراقي ، شكول من الآثار و التذكارات ، لكل منها في قلبي مكانته والكثير منها جمعت شتاته من مختلف الأصقاع التي كنت أجوس بها لمحض الزيارة أو للاستشفاء .
تلك الأثار والتذكارات تمثل أدواراً متعددة من حياتي الخاصة ، وأني لتقع نظراتي عليها في حجرة مكتبي الضيقة فيخيل إلي أنها تختزل العهود ، وتختصر الأزمان ، وتداني بين الأصقاع ، وأنها تريني ذلك كله مضغوطاً مدمجاً يبعث الماضي أمام عيني حياً في أية ساعة أريد .
ما أقربها شبيها بتلك البلورة التي تستطيع أن تلم ما تشعث من شعاع الشمس، فتركزه في مكان محدود هو ملتقى النور .
تحيط بي هذه الأثار والتذكارات فكأني استعيد رحلاتي الغابرة في عالم الماضي ، قريبه وبعيده ، واجدني أسيح فيه على نحو جديد ، لأني الصورة بعين اليوم الراهن ، وانتقل إليه على اجنحة من يال الحاضر .
وإن هذه الرحلات التي أقوم بها ، وأنا ساكن في صومعتي لهي اطيب رحلاتي وأوفرها دعة وطمأنينة ، فقد برئت من التكاليف وسلمت من المشاق ..لا حقائب متاع تعبأ ، لا جوازات سفر تهيأ ، ولا جمارك أخوض غمراتها على كره ، ولا مركبات النقل بها غير آمن .
لقد ألفت هذه الرحلات الوادعة ،وطالبت بها نفسي ، فأنا أوثرها كلما خلوت إلى مكتبي ، لأطالع ، أو لأجري القلم .
واشعر دائما بأني أجدد بهذه الرحلات حياتي الراتبة ، واذهب بها ما يعتريني من سأم ، وابث بين جوانحي روحاً من الحركة والطواف .
بارك في تلك الآثار والتذكارات ، سجينة ولكنها تثير الانطلاق .. مقيمة.. ولكنها أبداً على سفر .
مقتطف من مجلة الأثنين والدنيا
العد: 783 – 17 إبريل 1950م.
نقلا عن تراثنا / العدد 43