الحلقة ( الأولى )
سطور صادقة من الحياة يغفل عنها الكثيرين
تراثنا – كتب خالد أبو قدوم :
من سيرة حياة رجل الشارع البسيطة ، يقع بعض الباحثين ذو النظرة الثاقبة في التاريخ والتراث على مبتغاهم، ويلتقطون من سطورها نوادر ما خلف الكواليس ، من أحداث مهمة ، تأتي عفوية صادقة من فم رجل الشارع، لم يدخل عليها مقص الرقيب تشذيباً أو قطعاً أو توجيهاً.
كان الفلسطيني صاحب البقالة والحوش المؤجر والعامل على الشاحنات موسى مسلم العسكر التعمري – مواليد بيت لحم في فلسطين 1940 م- ضيفاً على مجلة تراثنا (الورقية ) ببساطته ، وصدق لهجته ، واحاطنا برؤيته للكويت ، بشيوخها وأهلها ، منذ قدومه إليها شاباً يافعاً عام 1965 م ، حتى لقاءنا به وقد بلغ الثمانين عاماً .
وقد أرتأت تراثنا الإلكترونية أن تقدم مادة اللقاء على حلقتين متتاليتين للفائدة :
موسى التعمري
-
كانت النية العمل في الكويت ثم العودة للديار، فانطلقت بنا طائرة من مطار قلندية محملة بالفلسطينيين وهبطت بمطار بين النزهة والشامية .
-
أستأجرت حوشاً بجوار قصر الشيخ ناصر المحمد (الحالي ) من الشيخ محمد الأحمد ، وكان يلتقي عنده الشيوخ صباح الأحمد وجابر الأحمد وولي العهد الشيخ مشعل الأحمد .
-
فتحت بقالة كان أشهر روادها المطرب الكويتي سعود الراشد ، وكفالة اقامتي كانت على علي القطان 25 عاماً دون مقابل لوجه الله .
-
افتتحت جزارة بعمارة راشد العلبان في القبلة وكان صاحبها يصبر على المتعثرين بل ويسامحهم أحياناً لو تعسرت الحال بهم .
-
كانت لحوم الجزارة عربية من صفاة الغنم وأما الأسترالي فلم نكن نعرفه، وموقع الصفاة الآن مبنى التلفزيون.
ولد موسى التعمري وترعرع في مدينة بيت لحم في فلسطين عام 1940م ولما اشتد ساعده اشتغل برعي الأغنام كحال الكثير من أقرانه، واستمر في عمله إلى أن بلغ العشرين من عمره في عام 1960م وهو العام نفسه الذي قرر فيه السفر إلى الكويت، بعد أن سمع عن فتح الديرة أبوابها لاشقائها وأنها «بلاد العرب» كما أطلق عليها الناس تزخر بالفرص الواعدة.
الكويت هي الوجهة
كان أمام موسى التعمري والفلسطينيين عموما وجهات عدة للسفر خارج فلسطين أبرزهما الولايات المتحدة وألمانية الغربية، بهدف إفراغ الأرض من سكانها لمصلحة اليهود حينها، لكنه فضل الكويت على غيرها ..
إلى الكويت بلا تأشيرة
يعود التعمري بالذاكرة إلى 60 سنة مضت ويقول عن رحلته الأولى في حياته خارج الديار: « كانت النية السفر إلى الكويت للعمل بضع سنوات ومن ثم العودة للوطن بعد جمع مبلغ مالي جيد لمواصلة العمل في بلدي، فاستخرجت جواز سفر للمرة الأولى في حياتي من القدس وحجزت تذكرة بقيمة 20 ديناراً أردنياً وانطلقت بنا الطائرة وكانت من طراز «تراي دنت» من مطار قلنديا يوم 5ـ 12ـ1965 وكل ركابها فلسطينيون متوجهون الى الكويت من دون تأشيرة، وحطت بنا في المطار الواقع حينها تقريبا بين النزهة والشامية، وقد كان المطار بسيطاً ومن دون حراسة».
العمل في البقالة
وما أن وطئت أقدام مسلم الأراضي الكويتية حتى تم منحه إقامة مؤقتة لمدة ثلاثة أشهر بعد اجراءات دخول بسيطة، متجها عقبها إلى منطقة القبلة حيث يسكن أخاه الكبير في بيت عربي إيجاره الشهري 200 روبية وفيه بقالته التي يعمل فيها، فانضم إليه موسى يعاونه في عمله في فريج ” حي ” لم يكن كباقي الفرجان وفيه زبون ليس كباقي الزبائن ..
البقالة والشيخ والحوش
يكشف لنا التعمري عن زبونه المميز:» كان يسكن بالفريج الشيخ محمد الأحمد وهو ابن أمير البلاد السابق الشيخ أحمد الجابر ووالد رئيس الوزراء السابق الشيخ ناصر المحمد، وكان ملاصقاً لقصره حوش عربي كبير تابعاً له وكنت أرسل إليهم طلباتهم إلى القصر، وأحيانا يرسلون من يبتاعها وكان الشيخ محمد الأحمد يمر دورياً على البقالة ويدفع كل الحساب المسجل، وفي عام 1967م عندما أفرغ الشيخ الحوش العربي استأجرته منه بمبلغ 150 ديناراً شهرياً وكان به 18 غرفة وأجرته على عمال مصريين بقصد الاستثمار وعقب ذلك أضفت إليه غرفاً من خشب وشينكو “صفيح”.
بيع الحوش
ولم تكد تمضي سنة حتى عرض إيرانيون على الشيخ إيجاراً شهرياً قيمته 500 دينار مقابل إخراج التعمري من الحوش، فكلمه الشيخ أن يسوي الأمر معهم بما يضمن مصالح الأطراف جميعها، وقد كان ذلك بعد تسوية للتعمري مع الإيرانيين، تسلم بموجبها منهم أربعة آلاف دينار.
قصر الشيخ ناصر المحمد
موسى التعمري أو أبو محمود كما يحب أن نناديه، كان يذهب شهرياً إلى الشيخ ليسلمه إيجار الحوش، والذي يمثل مع قصره حالياً، قصر الشيخ ناصر المحمد، المقابل لشاطئ الشويخ.
ونظراً للعلاقة المميزة بينهما وتواضع الشيخ كان موسى يدخل إلى القصر مباشرة لعدم وجود حرس أو ما شابه فيسلم الإيجار لأحد المحاسبين الاثنين اللذين يعملان عند الشيخ وكانا من الفلسطينيين، وكثيراً ما سلم المبلغ للشيخ نفسه ويتسلم منه وصل الإيجار ويتبادلون الحديث أحياناً ..
الشيخ واليهود وفلسطين
عن إحداها يقول موسى التعمري : “التقيت بالشيخ في إحدى المرات لدفع الإيجار واصطحبني ماشياً إلى شاطئ البحر المقابل لقصره، نتبادل الحديث ومن كلامه أذكر أنه قال: لما كان في العراق عام 1925م التقى بأحد اليهود العراقيين المؤيدين لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وكيف رد الشيخ عليه مفنداً ادعاءات الصهيونية بحقهم بإقامه وطن قومي لهم، رغم أنه كان شاباً صغيراً حينها في عمر 16 سنة “.
التعمري في حضرة الشيوخ
موسى التعمري كثيراً ما صادف بزياراته المتكررة للشيخ محمد الأحمد، إخوانه: أمير البلاد الحالي سمو الشيخ نواف الأحمد ، وولي عهد الشيخ مشعل الأحمد ” حفظهما الله ” والأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد، والشيخ جابر الأحمد” يرحمهما الله ” وباقي الإخوة، يحتسون الشاي والقهوة على الدكة، وفي حضرتهم بعض من كبار التجار.
سعود الراشد زبوني
وعقب انتهاء ثلاثة الأشهر التي منحت له عند أول قدومه إلى الكويت كفله أخوه خليل لمدة 5 سنوات ، حيث افتتح لنفسه محل جزارة بعمارة راشد العلبان في منطقة القبلة أيضاً بالقرب من مدرسة عائشة، واكان إيجارها الشهري 300 روبية..وكان أشهر زبون عنده المطرب الكويتي الراحل سعود الراشد ” يرحمه الله ” ..
يقول عن تجربته :” مصدر اللحوم التي كنت أزود بها المحل كانت من صفاة الغنم، وهي خراف عربية وأما الأسترالي فلم نكن نعرفه، وموقع الصفاة الآن مبنى التلفزيون. وأما عن مالك العقار العلبان ” يرحمه الله ” فكان رجلاً محترماً للغاية يصبر على المتعثرين عن سداد الإيجار، بل ويسامحهم أحياناً لو تعسرت الحال بهم” .
انطلاقة واسعة
وبعد أن أمضى التعمري في الكويت بضع سنوات اشترى بقالة بقيمة 5 آلاف دينار بمنطقة السالمية بالشراكة مع أخيه، إلى جانب شرائه سوبرماركت بمنطقة القبلة خاصاً به في عمارة لورثة الشيخ أحمد الجابر أسماه: سوق المنتجات الأردنية وكان كبيراً بثلاثة أبواب، كوّن من خلاله علاقات مميزة مع بعض الزبائن وبالذات مع علي محمد علي القطان” يرحمه الله “، وكان تاجراً للأقمشة يمتلك عدداً من المحلات بالديرة، ولما انتهت إقامته التي كانت على أخيه عام 1965م كفله القطان بعد أن أصبح القانون يشترط على الكفيل أن يكون كويتي الجنسية، واستمرت كفالته له الى تاريخ الغزو عام 1990م .
25 عاما مجاناً
يقول موسى عن كفيله الكويتي الأول: ” كفلني لمدة 25 سنة لم يتقاض عن ذلك فلساً واحداً طمعاً بالأجر والمثوبة من الله، وقد كان رجلاً على خلق لا تفارق الابتسامة محياه وقد رافقته في بعض أسفاره إلى العراق وسورية نظراً للعلاقة المتينة بينناً “.
وصلت كاملة
يذكر التعمري موقفاً حصل لهما وهما في مدينة الرطبة بالعراق عام 1965 م : “كنا نسير في الشارع فاستوقفنا شخص يجمع التبرعات لبناء مسجد في المدينة، فتبرع القطان بخمسة دنانير، لكن الرجل سلمه وصلاً بقيمة دينارٍ واحدٍ، فلما استنكرت عليه فعله قال القطان : دعك منه.. الخمسة وصلت كاملة إن شاء الله”.
هامش :
*من هم التعامرة ؟ : ( موقع فلسطين في الذاكرة ) .
يتبع لاحقاً
في الحلقة القادمة يتحدث التعميري عن :
– مواقف في الغزوالعراقي والتضحيات
– التحرير ومظاهر البهجة
– صور : ( كونا ) ، ( منصة تويتر الفضلي ) ، (العين ) ومواقع متنوعة
طالع : الجزء الثاني من المقابلة : ( الكويت في 60 عاما بعيون فلسطيني تعمري ) الحلقة الثانية
طالع : مجلة تراثنا العدد 75 لشهري ( سبتمبر – أكتوبر لعام 2020م )